عندما أخبرتني صديقتي أني مملّة...

ياسمين المصري
الإثنين   2023/01/23
لوحة كاثلين كاريللو "فتيات النميمة - نيويورك 1940"
لم أكن أرغب في الحديث مع أحد، وفي تلك الليلة لم أفعل أي شيء. نمتُ باكرًا وبقيت نائمة لم أرد الاستيقاظ، هاتفي مغلق، ولم أعرف الساعة حتى بعد الظهر. لم أفعل أي شيء، حتى الطعام لم أرغب فيه، ولم أطبخ. فأمس، جرحني كثيرًا أن صاحبتي تظنّني مملة، وحين انضمت إلينا صاحبتي الأخرى، قالت لي بعدما انصرفت إنها ممتعة وتصنع أجواء.

وددتُ أن أرسل إليها في الليلة نفسها وأقول: "لعلك لاحظتِ أنه جرحني أن أكون مملة بالنسبة إليكِ، رغم أني لا أراكِ كذلك". ولم أفعل، دثرت جرحي بالصمت. فقد تساءلت عن جدوى قولي بأن هذا جرحني، ربما تقول إن الصراحة تجرح، ربما تتساءل أليست هذه الحقيقة؟ أخاف أن تعيد السؤال وتعيد توكيد إجابته في داخلها. أما الصمت عما حصل، فسيكون كرقع مزق صغير خافت، إن كلانا تعرف سرًا أن شيئًا ما حدث، أن شبحاً غامضاً ألقى تعويذته المسمومة، لتبقى عالقة بيننا، ولا نجرؤ على أن نفكر فيها سوياً.

ربما هجستُ في نفسي كثيرًا أني قد أبدو مملة للكثير من الأشخاص. أعرف أن هدوئي ممل وأن احتراسي ممل، وأني قد لا أجد ما أقوله، وأفتقد للعفوية ربما، ولحسّ الدعابة أكيد، لكني لطالما ظننت أني سأكون ممتعة في صحبة مَن أحبّ، أو أن محبتي لهم ستكون كافية لتعويض هذا العيب الصغير. وأنا ليس لدي أدنى مشكلة في التفاعل مع عيوبي التي أتصالح معها، لكن أن يواجهني أحدهم بعَيب لم أتصالح معه، أحس أنه،... لا، لا، رجاء، سأفترش من الأرض أقرب نقطة وألقي بنفسي كطفل غاضب وأبكي! لا أعرف حتى طريقة مناسبة للتعامل مع مشاكلنا النفسية الجوهرية، أفضل من الهرب منها، ومن البكاء.

لقد بكيت تلك الليلة، احتجت لهذا. بكيتُ بعد يوم جاف على أمل أن أستيقظ بعد ذلك لأقوم بمهامي اليومية فحسب. لن آمل في ما هو أكثر. وتذكرت أنني أسير جيدًا في غَزلِ شال لأمي، وفكّرت أن بوسعي أن أنجزه قبل نهاية الشتاء، وإنه رغم عيوبه، سيكون جميلاً... حين خطرت لي الجملة الأخيرة بلا قصد، تعزّيت، ورددتها ثانية في تأمل حالم، "رغم عيوبه سيكون جميلاً".

وحين نظرتُ أخيرًا إلى هاتفي، كانت الساعة تقترب من الواحدة ظهرًا، وأضاءت الشاشة رسالة من صاحبة ثانية لي، تقترح فيها أن نذهب معًا إلى الشاطئ لتزجية اليوم. ولمّا كنت أريد الهروب من شعوري المقبض، فقد أرسلت إليها أن تنتظرني لنذهب معًا. وكان نهارًا! أحببت تلك الساعات التي عشتها بصخب. أحببت كثيرًا حين تعلقتُ بظهر صاحبتي في الماء واسترخيت ضاحكة. كان هذا آمنًا ودافئًا، وأحببت أنني فعلته من دون تردّد. كان فعلاً طفوليًا وحالمًا، كان ذلك النهار تحقيقًا لفكرة أن أعيش أولاً، ثم أفكر في ما عشت، ثم أعرف عبر ذلك ما أريده وما أحبه. غير أني فكرت اليوم أن الشاطئ كان مكشوفًا على الشارع على نحو غير مريح، تخيلت كيف بدا منظري لمرتادي المطاعم المقابلة والمارة من السيّاح الذين يملأون المدينة.

وعرفت أني لا أحب الإسفاف المزعج لهتك الحياء، بتحويل الأشياء الحميمة إلى مناظر يومية عابرة، وأنه لا بأس بصفحة نهر هادئة لا تستلفت نظر أحد، ثم فجأة، بوووم، يُرمى حجر في وسطها مخلّفًا دوّامات صاخبة على سطح النهر الهادئ، لن تلبث أن تختفي بعدها ويستعيد النهر صفاءه. واستعدتُ قول صاحبة نهاري حين قالت لي أنها، منذ مدة، لم تستمتع هكذا. أحسست بالامتنان، وفكرت أني لا أريد أن أقتبس من صديقتي "غير المملة" أسلوب حياتها الصاخب على الدوام. فكرت كيف يبدو الآخرون مرايا نرى فيها ذواتنا، ونعرف ما يناسبنا من خلالهم. أعني كيف نرى الأشياء التي يفعلونها ونقرر عبرها مدى قبولنا أو رفضنا لأن نكون نحن هؤلاء الناس.

أما الملل، فسيغدو هاجسًا يظلّل خواطري عن نفسي، كعلامة استفهام تقف فوق رأسي كلما جالستُ إنسانًا. وأفكر في صعوبة تقبّلنا لذواتنا. نحن نعرف أننا لسنا كاملين، لكننا نصطدم، كلما عشنا، بتلك الحقيقة. أنا لست كاملة، إذن، مَن يهتمّ! فحتى الوعاء الناقص يكتمل حتى حافّته ويملأه شعور امتلائه بالرضا والكمال بلا مزيد. بل ربما كان في المزيد ما يضرّ به ولا ينفعه. وفكرت كذلك في صاحبتي الأولى، إنّ ثمه حوارًا طويلًا مؤجلاً بيننا، ونحن نتناساه كما يتناسى البشر حقيقة موتهم المحتم.