المزاج.. رحلة موصومة

نجلاء أبومرعي
الإثنين   2023/01/02
تتماهى الحيوانات مع من يتبناها، أو أننا، نحن البشر، نحاكي تعابيرها ونحتضن سلوكها. في الحالتين، تبدو لعبة المزاج محدداً أساسياً في صياغة هذا التصور أو هذه العلاقة، وكل شيء تقريباً.

تُحال غالباً السيئات إلى المزاجية... صحيح أنها قد تعيق درب أصحاب الخطط التي لا يفلت منها تفصيل، لكنها تحمل أيضاً المزاجي/ة إلى احتمالات لا تقف عند الحد الفاصل بين الأبيض والأسود.

منخفضات ومرتفعات وانحناءات... طرق ملتوية تلمُّ عند كل التفاف تفاصيل قد تبدو غريبة، طارحة جزيئات لا يمكن استشعار ماهيتها، إلا بعد أن تأخذ مسارها نحوك، تنسج المزاجَ الذي ينمو شيئاً فشيئاً إلى أن يتجسد. نتقمص المزاج أو يلتفُّ علينا بخطى خفيفة، دقيقة ومدروسة. نصارع المزاج غالباً بعد أن يحكم سيطرته على أفعالنا، حينما نتنبه إلى غرابة هذه الأفعال. كمن يدرك أنه في حالة توتر أو تشتت بعد انزلاق فنجان من بين يديه..

لكن المزاج ليس مقصلة ولا ميزاناً. منمنماته المحسوبة لا تُسقط من يديه المفاجآت. المزاج هو صندوق الهدايا التي تخرج منه الأوقات واللقاءات الأجمل.

المزاج هو الذي يجعلنا غير مهيئين للأمسيات الوادعة، وهو نفسه الذي يجذبنا لنؤخذ بها، لا لأنها ساحرة على نحو لا يوصف، بل لأنها سافرت بنا داخل عالمه من ضفة إلى ضفة. إنه اختبار يتيح لنا التنقل في عوالم لا حصر لها تحت سماء واحدة، كما يفعل صوت ماريا كالاس مثلاً وهي تؤدي "L’oiseau est un amour rebelle"، هو اختبار وليس رحلة لأنه يستدعي جهداً، للتفاعل معه، سواء بقبوله والذهاب إلى الوجهة التي يريد، أو لإبقاء مسافة معه ومع مغرياته.

المزاج هو أيضاً تلك الأوقات التي هبطت فيها الشمس والتجأتَ خلالها بعيداً عن الصخب إلى نفسك، لتهرب بها في رحلة بقيادة أغنية، أو فيلم أو فكرة، بل أفكار. هو رحلة بحث عن غير قصد سوى الهجس بما قد تحمله من كل غير مألوف أو مجهول، فيصبح القصد ذلك الشعور الذي يتعذر عليك التعبير عنه سوى بـ"آه حقاً"، تكتفي بها لترجمة كشف مهما كان بسيطاً.

يكفي لوضعك في حالة من النشوة والافتتان، كأن تبدأ بقراءة خبر عن الحالة الصحية للبابا بينيدكتوس، فتجد نفسك تتنقل من الخبر إلى البحث عن الرجل الذي طوب خلال زيارة محددة. تنقر على الاسم لتعرف من هو بالتحديد، فتجد نفسك في خضم نقاش مفتوح ولم يحسم بعد بين المؤرخين ومجتمع الميم، حول الرجل وميوله والنظرة التاريخية والمجتمعية للصداقة في حقبة مضى عليها مئات السنين. هي المعرفة، والمزاج يحمل شيئاً منها على طريقته.

المزاج باب لتناسل الأفكار... تتذكر ذلك الرجل الذي دخل مقصورة قطار الأنفاق معك وتوجه نحو مقعدين كنت تهمّ نحوهما، أبطأ خطواته ناظراً إليك ليتأكد من عدم ممانعتك الجلوس إلى جانبه لو اختار واحداً منهما. تومئ بابتسامة الموافقة وتجلس مباشرة على المقعد المجاور محاولاً كتابة فكرتك السارحة. تتذكر كيف قاطعك للسؤال عما إذا كان في القطار الصحيح نحو وجهته. كل تفصيل في وجهه وفي طريقة سؤاله يفضحه... إنه زائر للمرة الأولى. 

تعود إليك الصورة، وتتنبه إلى أنه بإجابتك عن سؤاله بلغته وإرشاده إلي حيث يريد، أسعدت شخصاً انتقل من مزاج يقوده نحو القلق إلى محطة القدرة على الاستمتاع رغم صعوبة المواصلات. أنقذته من بداية هلع قد يوهمه بأنه تائه في مدينة لا يعرفها ولا يجيد لغة السائحين فيها، وربما باللاعدالة إزاء القدر، هو الذي أتى باحثاً عن البهجة في فترة الأعياد، لماذا يجد نفسه في حال من التوتر والضياع؟ لقد وفرت على شخص أسئلة وجودية ومشاكسة مع القدر لا طائل منها. هذا التذكر يأتي بك إلى محطة مريحة من محطات المزاج اللامتناهية.

لاحقاً، وأنت على سجية ساقك إليها المزاج، تقرأ من جديد أفكارك السارحة التي دونتها في تلك المقصورة وتجد قفزة بين جملة وأخرى، تبحث عن الرابط المنطقي، تحاول تذكر ما الذي أردت قوله حينها. ما الخاطرة التي فرضت الجملة الأولى، وكيف فرضت ما تلاها. لا تخبرك المسافة التي تركتها بين العبارتين عن أثر هذه المحادثة السريعة، عن وقع هذا العون الذي مددته لصاحب الابتسامة السائحة في رسم مزاجك وإملاء مفردات الجملة التالية آنذاك، وفي وصولك إلى وجهتك حينها بارتفاع عن عتبة الكرب الذي تخفيه. 

رغم المروحة الواسعة التي يقلبك المزاج بينها، إلا أنه ليس طارداً للجهد، بل إنه الداعي لبذله لتحقيق كل سعي بعيداً عن مآله، للتكيف مع متطلبات الآخرين والعالم. والمزاجيون، هم أكثر المحتضنين له لصيقاً بصدورهم، هرباً من وصمة الانسحاب وعدم التنبؤ.