الطفلة "المُكلّفة"... إمرأة مبكرة

يارا نحلة
الخميس   2022/09/29
من حفلات التكليف الشرعي في المدارس
تُعطى البنات، في المجتمع الذي ترعرعت فيه، صفة الجنسنة قبل بلوغهن حتى. ولهذه الصفة أشكال متعدّدة، منها حجاب الرأس العادي، أو ما يسمّى شيعياً باللباس الشرعي، وهو يُعدّ تسويةً بين الحجاب العادي الذي لا يرقى بالنسبة للبعض لمستوى التستر الذي طالب به الإسلام نساءه، وبين الشادور الأسود، أعلى مستويات العفة والتقوى الإسلامية.

ليس من المستغرب أن تجد في شوارع البلدات الشيعية، طفلة في السابعة أو الثامنة من عمرها ترتدي شادوراً أسوداً يغطي جسمها الضئيل قبل أن تظهر عليه العلامات الجنسية التي تنبغي تغطيتها. يعلّل الأهل سباقهم مع بيولوجيا الجسم الأنثوي بحجّة تهيئة الفتاة لمتطلبات الأنوثة كما يفرضها الإسلام. هذا يعني تغطية المعصمًين، كعب الرِّجلَين، الجبين والعنق وصولاً الى الذقن بمحاذاة الشفة السفلية، والاستمرار في رفع الحجاب كلما انزلق سنتمتراً واحداً عن الحدّ الموصى به. انه التزام شديد الإخلاص من جانب طفلة لحراسة ما ليس له وجود بعد، ولنفي المؤكّد المحسوس، قبل اختباره أو فهمه.

عرفتُ في ما مضى فتيات كثيرات، من رفيقات المدرسة أو الحيّ، كنّ مخلصات لواجباتهن "الشرعية" بدرجةٍ تثير العجب، بما هي صادرة عن طفل لا يدرك بعد معنى "الالتزام" و"الواجب". ولا حاجة للقول هنا أن هذه المفاهيم لم تكن تظهر على سلوك إخوانهن أو زملائهن الصبيان، الا بعد سنوات. كانت الهوة بين الفتيات والفتيان واسعة جداً، وتبتلع جوانب حياتية قد لا تحتمل الجندرة.

فبالنسبة لابنة الجيران ذات السنوات التسع، كانت الأنوثة تعني إخفاء كل ما يمكن إخفاؤه من جسدها، باستثناء كفّيها، وذلك الحيّز الصغير من وجهها الذي يؤطر عينيها، أنفها وفمها. وفي مرّة كانت تطلب اذن أمها لمرافقتي في رحلة عائلية، فسمحت لها الأم بذلك شرط أن "تكوني بنت"، فما كان منها إلا أن رفعت حافة حجابها لتغطي ذقنها، مبرهنةً لأمها طاعتها الكاملة لمتطلبات الحشمة والأنوثة. كانت هذه الحركة المتكرّرة في تظبيط حجابها كي لا تتكشّف عنه خصلة من شعرها، بمثابة إشعار ضمني بين الأمّ وابنتها عن التزام الأخيرة بمروحة واسعة من السلوكيات التي تفترضها وضعية الأنوثة.

أما بالنسبة لرفيقاتي المراهقات في المدرسة، فكانت الأنوثة -الممَثَّلة أيضاً بشعار الحجاب- تفضي الى المثال الجنسي الأسمى، الهوام الأعظم إن جاز القول، أي وهب الجسد لرجلٍ واحد، هو الزوج المستقبلي. في حديثهن عن السُّترة ونزع أجسادهن عن حقل الرؤية الذكري، يمكن تلمّس شيء من الفيتيشية. فقد كانت فكرة تكريس الجسد لمتعة رجلٍ واحد، تمرّ في حديثهن على عجل، إلا أنها تشكّل الجوهر الأساس لمسألة الحجاب. وكأن بالحجاب نفسه تتحقق كامل طاقات الوظيفة الجنسية وتتفتّح الرغبة المؤجلة الى أقصى حدودها. ولا تنتهي سلسلة التناقضات هنا، إذ يظهر نموذج "عقود المتعة" المنافي تماماً للزواج الأحادي.. لكن ذلك موضوع آخر.

وإن كان الحجاب يعجّل من دخول الطفلة عالم النساء، فهو في الوقت نفسه يعمل على تأخير عملية تطوّر المعرفة الجنسية لديها حتى آخر سنوات المراهقة، قبيل الزواج. إذ يُطلب من الفتاة التي حرص أهلها على إقامة شتى أنواع الحواجز بينها وبين الجنس الآخر، وفكرة الجنس عموماً، يُطلب منها فجأة ومن دون مقدمات أن تشاطر الفراش مع رجل شبه غريب.

في المحصلة، يباغت الجنس الفتاة مباغتةً. في المرة الأولى على شكل غطاء حاجب للوعي الجنسي، يؤكّد ما يسعى لإنكاره. وفي المرة الثانية على شكل انكشاف مطلق، في لحظة الزواج، أمام كل ما تعلّمت إنكاره تحت وطأة العار والذنب.

بممارسة فعل الحجب السابق للظهور، وبإسقاط الصفة الجنسية على الجسد عبر نفيها، تتخذ اليقظة الجنسية مساراً معاكساً يستدعي تكوين فهم سابق لأوانه حول الوظيفة الجنسية. إنها يقظة المُحرَّم في ظلمات اللاوعي، حيث يسدّ الخيال ثغرات المعرفة التجريبية في عالم الجنس الغامض والمثير للفزَع. وحين نقول عالم الجنس، فإننا نعني عالم الذات، بعمقها الأكثر حميميةً وغموضاً في الوقت نفسه.

إنها طريق شديدة الالتواء تلك التي تعبرها فتاة من مجتمع محافظ نحو ذاتها. فبين ليلة وضحاها، تكتسي الفتاة برمز يشهر دخولها عالم النساء، في ما عدا أبعاده الجنسية طبعاً. وعلى حين غرّة، تجد الطفلة نفسها "مكلّفة" بالتماهي المطلق مع صفتها المستقبلية كامرأة، من دون فهم منها لطبيعة هذا الدور ولاحتمالاته المتعددة، سوى ما يتبدّى منها في النموذج الأمومي. وعليه تكتسي الفتاة، ليس بحجاب فحسب، بل بذات صورية تأتي عادةً على شكل امرأة ثلاثينية (الأم) في جسد ذي سنوات سبع. وليس هناك ما هو محزن أكثر من طفلة في الثلاثين من عمرها! فهي تغدو أمّاً قبل أن تصبح امرأة، أي تهب نفسها للغير والمجتمع، قبل أن يتسنى لها أن تتعرّف على هذه الذات أو أن تمتلكها. مشكلة الحجاب في ذلك العمر المبكر تتجاوز مسألة مصادرة قرار المرأة بشأن جسدها، بل إنها مصادرة لذاتها قبل كل شيء.