MTV.. الحنين لثقافة ننبذها اليوم

يارا نحلة
الإثنين   2022/08/22
في الفترة الأخيرة، أجد نفسي أتردد بكثرة على قناة "MTV Nostalgia" التي تذيع أشهر أغاني وفيديوكليبات الفترة الممتدة من ثمانينات القرن الماضي وصولاً الى مطلع الألفية. ومع انني كنت قد توقفت عن مشاهدة التلفاز منذ حوالي عقد، ولجأت في المقابل الى "يوتيوب"، "نتفلكس" وغيرهما من المنصات التي تفسح مجالاً أوسع أمام حرية الاختيار، أعود اليوم الى الشاشة الصغيرة من باب النوستالجيا.

هي ليست النوستالجيا التي يُشار بها عادةً الى أغاني الستينيات والسبعينات، ما قبل الغزو التلفزيوني لقطاع الموسيقى. ليست نوستالجيا زمن الموسيقى الذهبي والبريء من تلاعب الرأسمالية واستثمارها، بل على العكس تماماً. هي النوستالجيا الخاصة بنا، نحن أبناء جيل التسعينيات الذي واكب النقلة النوعية في الاستهلاك الثقافي من التلفاز الى الانترنت والسوشال ميديا. 

لهؤلاء، شكّلت MTV ركناً اساسياً في الذاكرة، ومصدراً يغرفون منه الثقافة بصورتها البصرية فائضة الإثارة. أما بالنسبة لنا، أطفال ومراهقي الثقافات الشرقية (إن جاز التعبير)، فقد كانت لنا القناة الأميركية بوابةً للخروج، وإن افتراضياً، من قيود ثقافتنا المحلية المحافظة نحو عالمٍ من الحريات، وفي مقدمتها تلك الاستهلاكية.

الوسيط هو الرسالة
فور تأسيسها العام 1981، شقّت MTV مسارات جديدة في عالم الترفيه، إذ تعدّ القناة أوّل من قدّم نموذج الفيديو كليب الى جانب تلفزيون الواقع. ومع أن بعض الانتاجات البصرية المرافقة للموسيقى كانت قد ظهرت سابقاً، إلا أن الصيغة كانت لا تزال هامشية، ويعود إلى MTV الفضل في تعميمها وإرسائها كنمطٍ فني قائم بذاته، بالإضافة الى منتج إستهلاكي مربح. 

كان ذلك قبل "يوتيوب" وقبل إلتحام الموسيقى بالعامل البصري، حين كان الاستهلاك الموسيقي يقتصر على الإصغاء أو مشاهدة العروض الحيّة أو مقابلتها في السينما. وعليه، أحدثت MTV ثورةً في الصنعة الموسيقية، كما البصرية، وفي طرق تذوقهما من قبل المتلقي، مكرّسةً نفسها كقوة ثقافية وظاهرة عالمية بالغة التأثير. 


ومن إسهامات القناة أيضاً عولمتها للمحتوى الإعلامي وأنماطه، حيث أُطلقت نسخ منها في بلدان متعدّدة تبثّ المحتوى نفسه الى حدّ ما، متحوّلةً بذلك الى سلطةٍ نافذة في تحديد المعايير والتوجهات الفنية المرتبطة بثقافة "البوب"، ليس في الولايات المتحدة حصراً، وإنما في سائر البلدان المتحدثة باللغة الانكليزية وغيرها.

من أسباب رواج MTV احتضانها لأنماطٍ موسيقية معبّرة عن التمرد الشبابي التي كانت لا تزال تشكّل جزءاً من الثقافة البديلة والأندغرواند مثل ال"Grunge" والهيب هوب التي إلتحقت في ما بعد، وتحت تأثير MTV، بالثقافة السائدة وباتت تصبّ في صلبها. لقد أطلقت MTV مسيرة نجوم كثر، وعزّزت شهرة أيقونات عالم البوب الآخرين، مايكل جاكسون ومادونا. حتى أن البعض يعزو تراجع شهرة جزء من فناني الثمانينيات الى عدم تكيفهم مع النموذج النجومي الجديد الذي قدّمته القناة.

وقد عُرفت القناة ببثها فيديوكليبات جريئة، وصادمة أحياناً، حتى أنها أصبحت طوق النجاة بالنسبة للفرق الموسيقية التي تنازع من أجل الاستمرار والمنافسة، فكانت بإطلاقها فيديو كليباً مثيراً للجدل على شاشة MTV تستعيد شهرتها وعافيتها. كانت هذه الفيديوهات تزخر بعارضات الأزياء والراقصات الاستعراضيات، بالإضافة الى مشاهد العري والإيحاءات الجنسية، وهو ما جعلها في غاية الجاذبية خصوصاً بالنسبة للمراهقين.


الاستثمار في اقتصاد الرغبة
لم تتوقف طموحات "ام تي في" عند نموذج الفيديوكليب، الذي لا يتيح الاستئثار بانتباه المشاهد سوى لدقائق معدودة. عليه، كانت القناة سباقةً في ابتكار "نوع" آخر هو برامج ومسلسلات الواقع. أوّل هذه البرامج كان The Real World (1992) حيث جُمع شباب يافعون يلتقون للمرة الأولى تحت سقف واحد، ويتبع تفاعلاتهم خلال ثلاثة أشهر. حصدت السلسلة نجاحاً لافتاً وقد استمرّ عرضها حتى العام 2019، بما مجموعه 33 موسماً وما يفوق 600 حلقة.

من بعده، تتالت انتاجات MTV في عالم الواقع، ولم تقتصر وظيفتها فيه على الترفيه، بل كان لها دور فعال أيضاً في الترويج لأسلوب حياة معيّن فيه من الجاذبية، الإثارة، والثراء ما يخاطب رغبات المشاهدين ونزواتهم، لا سيما اليافعون منهم. في برامج مثل "My Super Sweet Sixteen" الذي يعرض حفلات أعياد الميلاد الباذخة لمراهقين في عمر السادسة عشرة، وCribs حيث يباهى النجوم والمشاهير بمنازلهم الفارهة وسياراتهم المتعددة، لم تتوانَ MTV عن تقديم نماذج من "لايف ستايل" قائم على الإسراف والغرور الطبقي. في سلاسل أخرى مثل Next أو Plain Jane، روّجت القناة للمعايير الجمالية والسلوكية التي يفترض بها أن تعزّز رأسمال الفرد في سوق المواعدة والشعبية. 

تلك المعايير والوعود تندرج طبعاً في اطار الثقافة الاستهلاكية، بل يمكن وضع أثر MTV الى جانب هوليوود من حيث استثمارها في اقتصاد الرغبة وتحديد شروطه ومآلاته. وللمفارقة الساخرة أن القناة أطلقت أيضاً مسلسل كرتون هزلي بعنوان "Beavis and Butt-Head" والذي يعدّ بمثابة كاريكاتير هجائي للمجتمع الأميركي الحديث وما ينتجه من ثقافة، هي الثقافة نفسها التي ساهمت MTV في صناعتها وراكمت فوقها الأرباح. 

والحال أن النموذج الفكري التي تطرحه هذه السلسلة، والذي تمّ تبنّيه لاحقاً من قبل مسلسلات الكرتون الأكثر شهرةً اليوم مثل South Park وRick&Morty، تقوم على الكوميديا ذات الطبقات المتعدّدة، والتي تسمح بُنيتها هذه بالسخرية من الذات وإزدرائها. وهذه أيضاً إحدى سمات الثقافة الرأسمالية التي تستثمر في معارضة الناس لها وتجني منها المكاسب.

الملفت في نشأة MTV هو الدافع الذي كان يقف خلف تأسيسها، وهو دافع ماديّ يتلخّص في استراتيجية شركة American Express، المخصصة لبيع الخدمات المالية، باستخدام التلفزيون من أجل الترويج لبطاقات الائتمان. وعليه، تعاونت الشركة مع Warner Communication في العام 1979 وأطلقتا سوياً شبكة تلفزيونية مؤلفة من قنوات ثلاث هي Nickelodean ،Movie Channel، وأختهما المخصصة للموسيقى MTV.

الشبكة التي أصبحت تدعى Paramount Media Networks تعدّ اليوم من عمالقة الإعلام، مع امتلاكها عشرات الشركات الفرعية العاملة في الصناعة السينمائية والتلفزيونية بالإضافة الى الـstreaming والألعاب الالكترونية.

أن يتحوّل مشروع شركة لبيع بطاقات الإئتمان، الى مستعمرة إعلامية قادرة على تحريك السوق وصياغة فلسفته الثقافية، هو تعريف الرأسمالية وأحد أبهى تجلياتها. أما نحن، أولاد ومراهقي العالم الثالث، فقد إلتهمنا هذه الثقافة التي كانت تجسّد نقيض ثقافاتنا المحلية، وكان ذلك أحد مواضع جاذبيتها. 

لكن مع وعينا التدريجي للأبعاد السياسية والاقتصادية التي يحملها مشروع مثل هذا، ووقوفنا في الجانب النقدي منها، إتجه بعض منا -خصوصاً من تطورت لديه ميول يسارية- الى نبذ هذه الثقافة والتعامل بريبة مع كلّ ما تقدّمه هوليوود وMTV. لكن بالرغم من ذلك نجد أنفسنا اليوم، حين تدقّ ساعة الحنين، نشغّل بتلقائية قناة "MTV نوستالجيا"، لتحملنا على أنغام أغاني مادونا وبريتني سبيرز وآفريل لافين الى ذاكرة الطفولة والمراهقة، فنتذوقها بمتعةٍ، متناسين ما يشوبها من فلسفةٍ ورسائل مبطنة. وذلك لأن ما حقّقته MTV فشلت فيه للأسف موسيقانا وثقافتنا العربية، أي احتضانها لذاكرة الطفولة وتحوّلها الى مرسىً للنوستالجيا.