على طاولة بري.. أجيال وأسرار

المدن - ميديا
الإثنين   2022/08/01
ثلاثة أجيال، يصطفون بالتواتر من الأكبر الى الأصغر، حول طاولة جمعت رئيس مجلس النواب نبيه بري بصحافيين لبنانيين. هذه المفارقة الشكلية، ليست بروتوكولية، وبطبيعة الحال ليست مقصودة، لكن مَن اعتاد لقاء بري، منذ 40 عاماً، يدرك التزام رئيس البرلمان بالوقت، وقد اعتاد أدبياته في اللقاءات الصحافية. 

أجيال الصحافيين الجالسين إلى الطاولة، يكملون "فسيفساء" المشهد الإعلامي اللبناني، سواء بالحضور أو المقاطعة، الاندفاع أو الاستماع. في الشكل، مَن وصل أولاً، اختار مقاعد مواجهة لكرسي الرئيس: جيل من الصحافيين الكبار، المعروفين منذ الثمانينيات في المهنة، يليهم بالتراتب جيل التسعينيات ومطلع الألفية، وأخيراً جيل المراسلين التلفزيونيين الشباب. 

يتطابق المشهد بمضمون الأسئلة وطريقة طرحها. التفاوت هنا، ليس اختلافاً، بقدر ما هو "حوار أجيال" تتباين في الاهتمامات وفي مقاربة الملفات، وفي النظرة الى الأولويات في مساءلة الرئيس أو استدراج سبق: 

ثمة جيل باحث عن معلومة، وآخر باحث عن موقف، وآخر يهبط الى زواريب السياسة المحلية. الجيل الأكبر، من صحافيي جيل التسعينيات الذين اعتادوا لقاء بري، يحفظون عن ظهر قلب دلالاته الايمائية: ابتسامته، صمته، مزاحه، اختصاره للإجابة... يتوق هؤلاء لمعلوماته، وينبشون في ذاكرة الماضي، بغرض الإسقاط على الحاضر. وهو، أمام الموزاييك هذا، الأدرى بهذا الإسقاط، ويبدو هذا الدور الأحب الى قلبه.

يستفيض في سرد وقائع سابقة. شَكلُ المجلس بين العامين 1992 و2022، والشبه بين المجلس الأول بعد مقاطعة المسيحيين (باستثناء مسيحيي الجنوب كما يؤكد)، والمجلس الحالي إثر مقاطعة "تيار المستقبل" الأخيرة. يركز صحافيو الجيل الأول على تفاصيل التشابه، ويقتنص صحافيو الجيل الأحدث ما قاله عن موقف الرئيس سعد الحريري بوصفه "غير مفهوم". 

والسرد، حِرفة يتقنها بري، ويلاقيه فيها صحافيو الجيل الأول، أولئك المعنيون بتوثيق الذاكرة، وبفهم إسقاطات رئيس البرلمان ومقاصده. ثمة جيل مدوِّن، يجيد الاستماع. وجيل مشاكس، يجيد اقتناص المواقف. يدير بري التنوع حول الطاولة، ويتعامل مع كل من الأجيال الثلاثة بما يطلبه. طيف هذه "الحرفة" (حسب وصف الراحل غسان تويني لمهنة الصحافة) على الطاولة، بتباين اهتمامات روادها، يفسر مقاطعة بري للحوارات التلفزيونية، منذ حواره الثلاثي الأخير مع الراحلَين عرفات حجازي وغسان تويني، والمخضرم طلال سلمان، قبل سنوات طويلة.

لا مساحة لدى إعلاميي التلفزيون للتحليل، رغم أن الجميع يستنتج بأن مجمل ما يقدمه، يقود إلى أن هناك مَن يجهّز أرضية للرئيس المقبل ليستطيع الحكم، من إنجاز ملف ترسيم الحدود عبر استئناف المفاوضات، إلى إنجاز القوانين الإصلاحية وتلبية شروط صندوق النقد، بموازاة الاتصالات الداخلية لتسوية موقف موحد يقود الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. 

يشبه التنوع الإعلامي حول الطاولة، ضيوفها الدائمين من كاتمي أسرار الدول. هي "طاولة أسرار". هنا يستشهد بري بأحداث تفسّر مواقفه، من ملف النازحين السوريين، الى استدعاء الوزيرين السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر في ملف تحقيقات انفجار المرفأ.

في الحوار الذي تجاوز الساعة، كرّر بري عبارة "على هذه الطاولة" جرى كذا، وقيل كذا... تحتفظ الطاولة بمحادثات المسؤولين الدوليين، من تأكيد فيليب لو غراندي بأن 11 شخصاً فقط من أصل 70 ألفاً عادوا الى سوريا في رحلات العودة السابقة، تعرضوا لمشاكل مع الدولة، وهو رقم "يمكن أن تجده في النروج من ضمن 70 ألفاً".. وعلى "هذه الطاولة" تعاملت هيئة مكتب المجلس مع مطالب المحقق العدلي الأول في ملف التحقيقات بانفجار المرفأ، القاضي فادي صوان (الذي دعا المجلس لاستخدام صلاحياته)، والثاني القاضي طارق البيطار، وأرسلت رسالتين وفق الأصول القانونية إلى مدعي عام التمييز "لنقوم بواجباتنا"...

الطاولة هي الشاهد على التدابير والخلافات. أسرارها أكبر من أن تخرج الى الإعلام. لكن وقائعها مدوَّنة. يتشابه رواد هذه الطاولة، الصحافيين والمسؤولين، بمَلَكة التدوين. ويستفيض بري في الشرح والسرد ونبش الذاكرة. يخلص الجميع إلى أن علة وجود لبنان هي تنوعه، أما علله فتدوّنها الأجيال.