الياس بوصعب.. حلقة وَصل النظام

نور الهاشم
الجمعة   2022/06/03
خلال سرده لوقائع الاتصالات، ليلة انتخابه نائباً لرئيس مجلس النواب، عبر برنامج "صار الوقت"، عدّد نائب رئيس مجلس النواب، الياس بوصعب، مروحة واسعة من الشخصيات التي تواصلت معه، وتتضمن خصومه في السياسة، مثل حزب "القوات اللبنانية"، ونواباً عن الكتلتين المدنية والمستقلة، الى جانب، بطبيعة الحال، حلفاء كتلة "لبنان القوي".

رمى بوصعب حجراً كبيراً في بركة المياه التي تتخبط فيها الاتهامات، منذ يوم الثلاثاء، ويحوطها التشويش: مَن أعطى بوصعب الصوت الـ65 في دورة الانتخاب الثانية؟ بقي الأمر سراً، بطبيعة الحال، لا يعرفه إلا عدد قليل من النواب، وبوصعب واحد منهم، وأعلن أن مَن صوّت له هما اثنان، أحدهما تغييري والثاني مستقل. 


الواقع أن تفاصيل الاقتراع لم تعد قضية مهمة. الأهم في النتائج أن هناك من يدفع بالنائب بوصعب إلى هذا الموقع، بمعزل عن الاصطفافات السياسية التقليدية، وخارج الشعارات وحسابات الشارع ومراكز النفوذ. مَن سمّاهم، يؤشرون إلى أن الرجل أبعد من كونه عضواً في تكتل "لبنان القوي"، وأكثر حيثية من اصطفافات رئيس التكتل النائب جبران باسيل. وهو، استطراداً، حلقة وصل بين الأضداد، يقف في منتصف الانقسام.

ليس دور بوصعب جديداً في تجربته السياسية. فالرجل القادم من خلفية سياسية "قومية سورية" قبل "العونية"، وخلفية مهنية أكاديمية، يمارس انفتاحاً على جميع الأطراف الدولية، ويحتفظ بهامش قوة، كونه ينتمي الى طائفة لا تطمح إلى موقع رئاسي، وهو الموقع الأكثر سخونة، يسعّر الخلافات والصراعات الداخلية، ويشظّي الطامحين بين المحاور الخارجية. 

لطالما اتخذ بوصعب موقفاً وسطياً بين المتصارعين. يمتلك قدرة على الاحتفاظ بالهوامش بين التناقضات. يتحرك ضمن مساحته الخاصة لامتصاص الخلافات. ما قاله عن اتصالاته بخصوم وأضداد، ومن بينهم "زميل في القوات" أو النائب ميشال معوض، أو نواب "تغييريون" و"مستقلون"، ينطوي على حقيقة. 

خلال السنوات الأربع الماضية، بقي بوصعب على تواصل مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، في عزّ الكباش بين بري وجبران باسيل.. ولم يكسر جرّة مع "القوات"، في عز خلافات باسيل مع رئيس الحزب سمير جعجع. وبقي الفاعل في ملف التواصل بين الولايات المتحدة والعهد، وأحد المنسقين بين لبنان والوسيط الأميركي لترسيم الحدود البحرية آموس هوكشتاين، رغم إدارج رئيس تكتله النيابي في لائحة العقوبات وانقطاع علاقة الأخير، في العلن على الأقل، مع الإدارة الأميركية. 


لم يخسر بوصعب امتيازه كحلقة وَصل. خرج من الاصطفافات الممنهجة، ليحمي نفسه من أن يكون حجراً في جدار الفصل. يعرف كيف يمتّن علاقة شخصية بين الطوائف والسلطة التقليدية، وليس أقلها ما أعلنه بأنه كان ليعطي رئيس المجلس صوته لو احتاج اليه. قوة الدور هنا، ليست مستمدة من باسيل الذي كان، على سبيل الافتراض، ليتسحيل أن يجمع 65 نائباً يصوتون له لو كان هو المرشح لموقع نائب الرئيس. القوة من موقع آخر، هو الانفتاح. ويؤهله، حكماً، لزعامة في طائفته خارج قيود "التيار الوطني الحر" الذي يشغل عضوية في كتلته النيابية، قد تنتقل اليه من موروث 60 عاماً. 

لا يُخفى أن طائفة الروم الارثوذوكس، تعاني غياب "حزب زعيم". فشلت الطائفة خلال السنوات الستين الماضية في بلورة مشروع سياسي حزبي مستقل عن الأحزاب المسيحية التي يترأسها موارنة وطامحون لموقع الرئاسة. تتشظى شخصيات الطائفة السياسية الفاعلة الآن بشكل رئيسي، بين حزبين مسيحيين، هما "التيار الوطني الحر" و"القوات". لطالما أنتجت الطائفة زعامة مناطقية، كان النائب والوزير الراحل ميشال المر أبرزها خلال السنوات الأربعين الماضية. وبعده، بات مَن يتمكن من التعبير عن موقف الطائفة الانفتاحي والمحتفظ بهامش استقلالية، الشخصية الأبرز في الطائفة. 

كان النائب السابق إيلي الفرزلي أحد القائمين على هذا الدور، لكنه لم يستطع أن يكون زعيماً بارزاً في الطائفة. قد يعود ذلك الى ارتباطاته بدمشق، وربما إلى كونه يتحدر من الأطراف (البقاع)، وليس المركز (بيروت أو جبل لبنان). 

يلعب بوصعب الآن دور الفرزلي، ويتحدر من مركز لبنان الجغرافي، من جبل المسيحيين. ينفتح بوصعب على الجميع، ويحظى بقبول دولي، وهو ما أظهره خلال السنوات الأربع الماضية وفي جلسة الانتخاب التي أسرّ بأسرارها بها إعلامياً. يدرك نقاط قوته، ويحافظ على هامشه خارج الاستقطاب السياسي بين حسابات الأحزاب المسيحية، ويحتفظ له الخصوم والأصدقاء بهذا الدور. يبقى أن يتحول إلى مشروع زعامة، وهو أمر مرتبط بالإمكانات وموازين القوى الدولية، هذا ما سيتبلور خلال عامين.