صار الوقت.. لاستعادة المسلوب

نجلاء أبومرعي
السبت   2022/06/11
يرفض أن يُنادى إلا بـ"الأستاذ مارسيل" (غيتي)
يشبه أثر مارسيل غانم، اليوم، في مستهلكي الأخبار ومنتجيها على حد سواء، ذلك الذي نابهم مع دونالد ترامب خلال ولايته رئيسًا في البيت الأبيض. وجه القرابة أو المقارنة ليس من باب العنصرية أو الاستخدام المفرط لمفردات تشي بالكراهية للنساء أو التمييز ضدهن، وإن كان هناك من يرى في ذلك وجهاً محقاً من وجوه المقارنة.

بل المقصود هنا، هو أن مارسيل بات، على غرار ترامب، مصدراً للخبر ولردود الأفعال عليه، في سياق ما باتت تفرضه طبيعة الاستهلاك الخبرية المحكومة بنسق متهافت على نحو مرهق. وهو بهذا المعنى مفيد لهذه الصناعة بطابعها المسيطر حالياً. فلو ابتعد مارسيل عن الشاشة الآن، كما فعل ترامب بخسارته ولاية ثانية في البيت الأبيض، لغاب الكثير من مادة الإثارة والجدل البِلا طائل عن وسائل التواصل الاجتماعي.

ربما يُرجع البعض ذلك إلى نجاحه. لا من ناحية أن نجاحه يجعله عرضة لسهام المنافسين والحاقدين وغير القادرين على الاستمتاع بطيف من قوس قزح شهرته، إنما من ناحية أن المقياس هو مقدار الجلبة المحدثة. فطالما أنه يُبقي رنيناً قوياً خلال الحلقة وبعدها، في وسائل التواصل الاجتماعي، إذن هو ما زال قادراً على المواكبة والاستمرار إلى آخره... من معزوفة أسبابها معروفة، مزيج من صلات المال والسلطة والإعلانات، واستمرار الحلقة المفرغة التي تدور إلى ما لا نهاية.

في مقابل المشاهدة "المكتسِحة"، ولا شك أنها عالية من منظار القيّمين والمتابعين لترددات "الرايتينغ"، هناك مشاهد ممتنع. عدد آخر لا بأس به من اللبنانيين لم يعد قادراً على هدر وقته الثمين على الشاشة، خصوصاً إن باتت مفتقرة لمبرِّر اللجوء إليها، سواء المتعة البسيطة، أو الإخبار الجاد والمعرفة الثقافية الرشيقة. نعم الوقت الثمين.

فالتلفزيون يعتبر منبر تقديم مادة، ترفيهية أو تثقيفية وسياسية في أحسن حال، بكلفة تقارب اللا شيء، إذا ما تناسينا ما يدفعه المشاهد في المقابل بوصفه مستهلكاً عموماً. في لبنان، بات الوقت المخصص للتلفزيون مُكلفاً معنوياً ومادياً. وذلك بفعل عوامل عديدة، منها أن الكهرباء لا تطلّ كثيرًا ولا طويلًا، وبالتالي حضورها عزيز جدًا، ومن أجلها يصفق الحي، ويتنادى أهل البيت عليها "إجت إجت إجت"، إنه الترحيب المستحق للضيف الغالي. فضلًا عن أن فاتورة الكهرباء، سواء كانت مزودة من الدولة أو من الاشتراك، عالية في الحالتين. لذلك تكمن الحنكة في استخدام ذكي للوقت بحضور الكهرباء بما تؤمنه من "راحة ورفاهية"، وعليه تصبح المعادلة: "صار وقت" عدم الاستهتار بالساعات الجواهر وضياعها في كم هائل من خليط لزج لمحتوى ملتبس الهوية.

لو وضعنا جانبًا، ما يبدو تعنيفًا للمُشارك والمُشاهد، بصريًا وسمعيًا، بسبب تلاحق انفعالات شخصية المضيف التي لم يعد استديو أو شاشة أو مسرح، ولا الفضاء الرحب، قادراً على استيعابها أو الإحاطة بتضخمها، يبقى لنا برنامج بمزاج متقلب.

وَصِفَة المضيف هنا تبدو الأدق للدلالة على ما يقوم به. يستضيف الضيوف والمشاركين، وفريق العمل الذي لا نفهم متى هو منحاز، ومتى يكون أفراده معدّين وباحثين وزملاء المضيف، ومتى يصبحون خبراء، لكننا نعرف أنهم في كل الحالات ينادونه بـ"أستاذ مارسيل". وهو ليس مقدمًا أو محاورًا، لأن مارسيل الذي لا يقبل أن يُنادى باسمه الأول، لم يعد محاوراً على النحوين التقليدي أو الحديث. لا ينتظر الإجابات ولا يسمعها، يتأرجح في الهواء على حبلَي السخرية والسخط ،في وجه الضيف أو المشارك. والبرنامج ليس بالساخر تماماً، ولا هو منصة لما يطلبه المشاهدون مرة، الثوار مرة أخرى، والمواطنون المحازبون مرات لا حصر لها، وأبداً ودائماً سياسيو المنظومة، من دون أن يغيب عنها الشقيق جورج الذي لم تتضح بعد صفته أو علّة استضافته الدائمة: مؤرخ؟ إعلامي، أم مستشار، أم مجرد أخ؟

ورغم مقاطعة ذلك كله، يجد الممتنعون أنفسهم مستباحين بترددات هذا المحتوى افتراضيًا، حتى لو تمكنوا من صمِّ الآذان عنه في جلساتهم مع الأصحاب. إذ أنهم يقعون في فئة من لم يجد مفرًا من التفاعل مع ترددات هذا المحتوى عبر الثلاثي فايسبوك- تويتر- إنستغرام.

قسم لا بأس به من اللبنانيين بات ينشد نهاية لهذا النسق الذي لم يعد حتى يقدم حداً أدنى من ترفيه ركيك، بل بات يشبه التعنيف الممنهج، وهُم ضحاياه.

ومع ذلك، تكمن المشكلة في مكان آخر، في حقيقة أن لا منافس على العرش لإنقاذ الوقت المهدور بعد، ولا يبدو ذلك ممكنًا في وقت قريب، ما لم تكن هناك انتفاضة حقيقية في النسق الإعلامي المُقدَّم، خصوصاً على الشاشة.

يبدو ضروريًا الإيمان مجددًا بأن الانهيار الشكلي والمعنوي الحاصل الآن على الشاشة في لبنان، لن يقدم لنا مادة ترفيهية تزيح شيئاً من الغمة عن صدورنا بلطافة، فنستعيد قليلًا من الطاقة لتدبر مصاعبنا اليومية.. ولن يفتح نقاشاً أو يهيء له على طريق التغيير في الوعي الاجتماعي والسياسي الحالي والذي يتلمس طريقه متخبطاً بالرواسب من جهة، وبقدرة المتمولين وأصحاب النفوذ السياسي، أي المنظومة إياها، من جهة أخرى.

صارت هناك حاجة مُلحّة لتغيير النمط السائد والمتمكّن كأخطبوط، والبحث عن محتوى فريد، متنوع وهادئ، جادّ ومسلٍّ أيضاً، متناسق لا متهافت. فالناس تستحق احترام عقولها وذائقتها، والإعلام في لبنان يستحق استعادة روحه المسلوبة.