ثلاث نساء و"فايبرايتور"

عزة طويل
السبت   2022/02/26
في البدء، أي قبل 150 عاماً تقريباً، اخترع جوزيف مورتيمر غرانفيل، أوّل جهاز رجراج-"فايبرايتور" في العالم. كان الهدف الأساسي منه حينها، معالجة الهستيريا العصبية لدى الرجال. يُقال إن غرانفيل رفض معالجة النساء في وقتها، لأنه رأى أن حالات الهستيريا لدى النساء أكثر تقلّباً وصعوبةً منها لدى الرجال. لكن ذاك العلاج لم ينفع، وسرعان ما تحوّل استخدامه لأغراض أخرى كتهدئة الأطفال حين يبكون، وتدليك أجسام المزارعين والمزارعات بعد يوم عملٍ طويل، والمساعدة في التهابات الحنجرة أو الجيوب الأنفيّة عبر تدليك المنطقة المصابة بالالتهاب، وغيرها من الاستخدامات غير الجنسيّة التي لم تكن ناجعة في شيء.

ورغم فشل وسيلة التطبيب البديلة هذه، في أداء المهمات الموكلة إليها، انتشر الفايبرايتور ودخل ملايين البيوت بفضل الدعايات الملتهبة التي كانت تشيد بتأثيراته الرهيبة على ألف مرضٍ ومرض، وذلك رغماً عن أنف المجتمع الطبي الذي رفضه وأعلن عدم نجاعته في الأغراض المعلنة له. ويحمل التاريخ لبساً كبيراً لناحية ما إذا كان الفايبرايتور قد استُخدم طوال تلك السنين لأهدافٍ جنسية سرية. أن يدخل الفايبرايتور ملايين البيوت وأن تُدلّك الأجساد به، فهذا يعني بالضرورة أن ثمة من اكتشف تأثيره في استحضار النشوة.


(أداة رجراجة من أوائل القرن العشرين، روّج لها كعلاج تدليكي
لأعراض البرد والمشاكل الهضمية)


(إعلان لأداة لتدليك الجسم، من العام 1953
حين بدأ التوجه التسويقي للنساء)


يقول التاريخ أيضاً إن الفايبرايتور استُخدم بعد ذلك "لمعالجة" العادة السريّة التي اعتُبرت في الماضي "مرَضاً"، وكانت الفكرة السائدة أن هذا "الداء" قد يؤدي بالمُصابين به إلى العمى! كان الناس يخافون من فقدان أبصارهم بسبب ممارستهم للعادة السرية، لذا كان ينبغي إنقاذهم من ذلك المصير المشؤوم. وهكذا جاء دور الفايبرايتور في هذا العلاج غير المفهوم.

ثم جاءت الثورة الجنسيّة، ولم يأخذ الفايبرايتور حيّزاً منها، رغم غرابة الأمر. إلى أن انتفضت بعض السيدات الأميركيّات في سنوات السبعينات، بأن بدأن باستخدام الفايبرايتور لتدريب النساء على التخلّص من الشعور بالذنب المرافق للعادة السرية، بحيث تتحوّل هذه العادة إلى لحظات حبّ للذات. رأت تلك النسوة أن "الفايبرايتور" وسيلة ناجعة لتغيير فكر النساء، للدخول إلى أعمق أعماقهنّ فكريّاً، وتحرير أجسادهنّ والقضاء بالتالي على البنيان الأبوي.

حدث هذا قبل خمسين عاماً. أما القصص التي سأرويها الآن، فهي حديثة، جديدة، تساعد في إكمال سيرة "الفايبرايتور" حتى عشرينات القرن الحادي والعشرين... قصص ثلاث نساء مع "الفايبرايتور"...

سارة
مشت سارة في شارع "لابيغال" الفرنسي وهي تتلفّت حولها. لم يكن شعوراً بالخوف ذاك الذي تملّكها، بل كان ترقّباً محمّلاً ببعض الرهبة. بدأت محال الألعاب الجنسية تظهر لها على جانبي الطريق. محالٌ متتابعة تعرض في واجهاتها كل ما يخطر في البال من أدواتٍ وملابس وكريماتٍ وألعابٍ وأفلامٍ. ستدخل أحد هذه المتاجر بعد دقائق وستختار "الفايبرايتور" الذي يعجبها. ستتجرّأ هذه المرة، فهي في باريس! حيث يُفترض أن لا أحكام على نساءٍ يدخلن محال الألعاب الجنسية ويشترين، وحدهنّ، ألعابهنّ الخاصّة. لكن، مهلاً، كيف ستُدخل "الفايبرايتور" إلى لبنان؟ ماذا لو رآه موظّف مراقبة الشنط وأثار بلبلةً في المطار؟ أزعجتها الفكرة كثيراً: أن يتحكّم موظّفٌ لا معرفة لها به، في علاقتها بجسمها، أن تسوّل له نفسه انتزاع الفايبرايتور منها، علناً، في المطار… يستحيل أن تخضع!

عند هذا الحدّ، دخلت أوّل محلّ قادتها قدماها إليه. كان مدخله ضيّقاً وفي الداخل ثلاثة رجال، فوقفت للحظة، ألقت التحيّة ثم بدأت جولتها وكأن المتجر لها وحدها. ألم تقل للتوّ إنها لن تخضع؟

لحق بها أحد الرجال الثلاثة وسألها عن مرادها. "Un vibrateur"، أجابته وهي تنظر إلى الرفوف أمامها حيث تصطفّ عشرات الأجهزة الرجّاجة بمختلف الأنواع والأحجام والألوان والميّزات. شرح لها الرجل قليلاً عن كلّ نوعٍ، ثم أشار إلى أحد الأجهزة مؤكّداً: "هذا أفضل نوع، حجماً وقدرةً على الرجرجة"، ثم أضاف: "هذا ما أسمعه من الصبايا على كلّ حال". اقتنعت، رغم استغرابها كبر حجمه، دفعت ثمن الهدية التي اتفقت مع حبيبها على شرائها لتصبح العلاقة بينهما أكثر إمتاعاً، وخرجت من المحلّ وهي تتساءل إن كانت قد تسرّعت في الخيار. الحجم الكبير لن يساعدها في المطار، وقد ينتهي بها الأمر وهي تسحبه من يد ذاك الموظف المقيت وتخبطه به على رأسه. ستؤذيه. كان يتوجب عليها أن تختار حجماً أصغر، كما أن العبرة لم تكن يوماً في الحجم!

تلك الليلة، في الأوتيل، على السرير، "الفايبرايتور" إلى جانبها، اللابتوب أمامها، والتليفون بين يديها تقرأ فيه عن "الآثار الجانبية" لاستخدام الأجهزة الرجراجة، وهي تنتظر حبيبها ليتحدثا عبر "سكايب"،  كما كل ليلة، منذ سافرت في رحلتها تلك إلى فرنسا.

سيصبح حبيبها أونلاين بعد قليل، وهو يريد أن يراها وهي تستخدم الفايبرايتور، وهذا سبب ذهابها إلى "لابيغال" أساساً، من أجله هو وليس من أجلها.

صفنت للحظة وهي على السرير، واستوعبت فجأة. تركت الهاتف من يدها. أغلقت شاشة اللابتوب أمامها وانصرفت إلى لذّتها هي. سمعت رنين "سكايب" من الهاتف واللابتوب معاً. امتزج الرنين مع الرجّات المتتالية للجهاز في يدها. امتزجت آهاتها مع الأصوات.

حين أطفأت الفايبرايتور، كان رنين "سكايب" قد توقف، وكانت هي ممتلئة فخراً بأنها استجابت أخيراً لما أرادته هي دون غيرها. قامت عن السرير والابتسامة على ثغرها: فليذهب موظفو الشّنط جميعهم إلى الجحيم إن لم يعجبهم الأمر...

هدى
لم تعرف هدى النشوة في حياتها الراشدة. لا يعني ذلك أنها لم تعرف علاقةً حميمةً، بالعكس، كانت لها علاقاتٌ كثيرة، لكنّها، في أيّ من تلك العلاقات، لم تعرف النشوة. كان ثمة حاجزٌ ما، هائلٌ، سورٌ ربما، بينها وبين ذاك الشعور ولم تتمكّن يوماً من تخطّيه. في سنوات المراهقة الأولى، كانت الأمور أسهل إلى حدّ ما. كانت تداعب نفسها أحياناً، فتصل، لكن ذاك الوصول انعدم حين بدأت علاقاتها الحميمة مع الشبان. ثم صارت علاقتها مع جسمها أكثر نشافاً، ابتعدت عنه أكثر فأكثر، وبدلاً من أن تبدو لها الأسوار أصغر، كلّما ابتعدت، كانت تكبُر وتكبُر، ولم تعد حتى تحلم بالنشوة.

لم تحكِ هدى عن الأمر، حتى لأقرب الناس إليها. اعتبرت، في جزءٍ منها، أن البنات كلهن هكذا، ومن الطبيعي أن تكون البنت خجولةً في نشوتها، خصوصاً أنها قرأت عن نساء كثيرات مثلها، لكنها كانت تجد علاقاتها في ازديادٍ عدديّ متلاحق. إذن، ليس الخجل هو المشكلة. لكنّها تحاول، بالفعل تحاول، وهي تبحث بين كلّ الذين تعاشرهم عن هذا الرجل الذي سيجعلها، أخيراً، تبلغ النشوة، فلا تجده.

ذات يوم وكان دلوها قد فاض، ولم يعد في إمكانها الاحتفاظ بالأمر لنفسها، أخبرت صديقةً لها. سألتها بدايةً: "اسمعي، لديّ سؤال أريد طرحه عليك، هل تصلين إلى النشوة بسهولة؟".
لست متأكّدة ممّا تقصدينه بـ"سهولة"...
هل كلّما مارستِ الجنس مع حبيبك تبلغين النشوة؟
نعم حبيبتي.. وإلّا لشو؟
نعم صحيح، "لشو؟". ليتها تمكّنت من الإجابة عن هذا السؤال من قبل. "لشو"؟… أخبرت الصديقة بما يجول في رأسها، والأهمّ أنها أخبرتها أنها لا تصل أبداً.
أربعة وثلاثون عاماً، يا مفتريّة، بلا ولا نشوة!
لا مش 34، إنو صايرة من قبل بس لحالي…

في عيد ميلادها الخامس والثلاثين، أهدتها الصديقة نفسها "فايبرايتور". كتبت لها على علبة الجهاز الرجّاج رسالةً قصيرة: "لحالك، مش لحالك، بتستاهلي يا هدى تحسّي بالنشوة". أبكتها العبارة المكتوبة. "بتستاهلي يا هدى". فكّرت بذاك السور الهائل، حائط المبكى الخاص بها، وقرّرت أن تطلق عليه من الآن فصاعداً اسم حاجز 'بتستاهلي يا هدى'. كان جسمها محتلّاً، بألف ذنبٍ وذنب، ما جعلها تنكر على نفسها أهليّتها لأيّ لذّة، فكيف باللذة الجنسية؟ لم تتجرّأ بالطبع تلك الليلة على استخدام "الفايبرايتور" ووجدت ألف حجّةً وحجّة لتؤجّل المحاولة إلى الغد.

ساندرا
قبل أن تتزوّج، كانت ساندرا تحلم بحياةٍ مليئةٍ بالحركة. ستتسلّق فيها القمّة بعد الأخرى، ستلبس جزمةً كاوتشوكية وتعبر نهراً وبحيرةً وستقفز كالأطفال في المستنقعات. ستحضر أعراساً وعشاءاتٍ وتسافر في إجازاتٍ وتشارك في مؤتمراتٍ، وستحتفل حتى الصباح كلّما شعرت برغبةٍ في التفلّت. لكن الأيام شاءت غير ذلك. أو ربما هي شاءت غير ذلك، ولم تعترف لنفسها بالأمر. المهم أنها انزوت في المنزل مع الأولاد، وتخلّت عن عملها لأنها تعبت من شغل منصبين في الوقت نفسه، منصب الأم ومنصب الموظّفة القديرة. في المقابل، لم تتسلّق أيّ قمّةٍ، وبالكاد حضرت عدداً مقتضباً جداً من الأعراس، كما أن السفر والإجازات باتت في نظرها أموراً بعيدة التحقيق، لا سيما أنها وزوجها في حالة شجارٍ مضمرٍ طوال الوقت، شجار ينتظر قشّةً لينفجر كلّ حين. لذا نسيت حتى أنها تشغل أيضاً منصب الزوجة.

كيف مرّ الزمان وتخلّت عن كلّ تلك الأحلام؟ صحيحٌ أنها قفزت في مستنقعاتٍ من وقتٍ إلى آخر، واشترت بالفعل جزمةً مخصّصةً للّعب كالأطفال، واحتفلت حتى الصباح مرّاتٍ عديدة، لكن ذلك كان قبل أن تغرق في دوّامة المنزل، فتنطفئ فيه رويداً رويداً، كشمعةٍ تراقب نفسها وهي تذوي، تتأمّل في ذوبانها وتعلّم نفسها تقبّل النار كأحد العناصر الأساسية لما تبقّى لها من حياة. درسٌ مستمرٌّ في عدم المقاومة، في الرضوخ الكامل، فلا يهمّ إلى أيّ مدى يبدو ذلك كليشيه، لكن هل ثمة من رأى يوماً شمعةً تنتفض على النار التي تحرقها؟

في مقابل ذلك كلّه، كانت لديها وسيلةٌ واحدةٌ تُشعرها بأنها تقاوم. وسيلتها تلك كانت تعلّم التلذّذ بذاك الذوبان. اشترت قبل فترةٍ "فايبرايتور" وطوّرت عادةً يوميّةً تقضي بأن تختليَ بنفسها وبالـ"فايبرايتور" في غرفتها، بعد الغداء، فتوهم أطفالها بأنها تأخذ قيلولةً قصيرةً لتعيد لنفسها بعض الطاقة. لم تكن تكذب في الواقع، فدقائقها مع جسمها كانت تبعث فيها طاقةً على الاحتمال، وطاقةً على القبول لا تفهم مصدرها. "إن لم أتمكّن من التمتّع معه، سأتمتّع وحدي…". تتمدّد ساندرا كلّ يومٍ على السرير، تغطّي جسمها كلّه، تفتح الجارور الملاصق لسريرها وتستلّ منه جهازها الرجّاج. تتأكّد من البطاريّات وقوّتها، وتنطلق في رحلتها اليوميّة إلى عوالم الرغبة واللذة والرضا. هناك تثابر على الوصول إلى النشوة، من نشوةٍ إلى أخرى، فأخرى، حتى تصل أحياناً إلى 12 مرّة أو أكثر. ومع كلّ وصولٍ تدمع عيناها، من دون أن تقصد. حتى، متى ما انتهت، تكون الدموع قد تجمّعت وفاضت من عينيها إلى خدّيها، في تمازجٍ تامّ ومتكاملٍ مع الشمع الذائب.
كلّ يوم، تنهض ساندرا من السرير، تعيد الفايبرايتور إلى الدرج، تمسح دموعها عن خدّيها ومن عينيها، وتكمل حياتها كأن شيئاً لم يكن.