الأحلام تمارين الذاكرة

نجلاء أبومرعي
الإثنين   2022/12/19
لوحة للإيطالي فرانشيسكو كاميللو جيورجينو المعروف بـ"ميللو"
تشبه الهبّة، في صباح لا شمس فيه لاستهلال اليوم، استدعاءَ المجندين من غفوتهم فجرًا إلى تمرين الزحف في الوحل تحت زخات المطر.

هذا الاستنهاض الفج، المفروض عليك في غير موعده وأوانه، يخفُق كل حياتك، أفكارك، تخيلاتك، تمنياتك قبل النوم وكل ذاكرتك وأحلامك في خلاط. وبتلبيتك نداء الفظاظة هذا، ترمي هذا المزيج في الحوض بنفسك، وتمضي إلى مآسيك اليومية.

وجوه الإزعاج عديدة، إنما أكثرها وطأة تلك التي تبتر أحلامك وتأخذك قبل فرصة وداعها المتمهل.

إن كنت من النشطين في نومهم، وأحلامك متناسلة، غزيرة، لا منطقية أو شديدة الترابط ودقيقة وتفصيلية في أحداثها، بالأبيض والأسود أو بالألوان، فأنت تحتاج لحظات صباحية وادعة، قبل النهوض إلى قهوتك.

إن كنت ممّن يتذكرون أحلامهم، رغم عدم اتساقها، بكل تشعباتها وسيناريوهاتها وتنقلها بين قارة وأخرى، وفي منازل لم تزرها يومًا، فواجب عليك وحق لزائريك في هذه المنامات دقائق وربما أكثر، للتفكر في هذه الاستدعاءات إلى ساعات ليلك المحفوفة بأرق أو بنوم رقيق...

قد تكون لمساعدتك على استشراف بواعث قلقك الآتي، أو لرسم ابتسامة على سذاجتك، أو لضحكة مجلجلة تقديرًا لحبكة روائية، لو أردت كتابتها لما استطعت... إنها دقائق الإطالة وتذويب الانفعالات الباقية من الحلم قبل التهيؤ والاستعداد.

يحق لك أن تفصِّل فيها وتعيد ترتيبها على نحو ما ترتأي فيه إدراكًا لأمر ما... أن تحاول تلمس الأثر الشعوري الذي خلفته هذه الومضات الخارجة عن سيطرتك بالمعنى الذي تعرفه في يومياتك... من دون ادعاء فرويدي أو تلبس لشخصية المحلل.

لعلك لن تعرف لماذا جاءك في المنام الممثل ساشا كوهين، في دور جاسوس يحاول قتل شخص في الحمّام... مع أنك لم تشاهد "الجاسوس" في نتفليكس بعد، ولا نية لك، ولم تقلب في صفحات المنصة ليلة الحلم المذكور. مع ذلك، أنت في الخارج، على شرفة غرفة فندق. تحاول الهروب من مجموعة، الآن لا تذكر ممن هي مؤلفة. مجموعة كانت أم شخصاً محدداً؟ تريد الهرب إلى الداخل... لماذا لا تستطيع الدخول؟ لماذا تحاول التحقق مما إذا كان باستطاعتك الهرب إلى الداخل؟ في خضم تيار القلق الذي يأخذك، هل فعلًا لديك الصبر لإقامة المقارنة وتقدير الأمور في ميزان المنطق ورجاحة العقل؟ هل هذه الستارة في يدك حقًا تفتحها وتغلقها، وما الذي تراه في الداخل ويلجمك في مكانك؟

أنت على الشرفة، عارٍ، وما تحاول الهرب منه يقترب أكثر فأكثر... هيا اقفز إلى الظلام خلف الستارة... أين الشخصان اللذان كان يتعاركان من خلفها، كان ذلك من صنع تهيؤاتك؟

يوجد ورد، جميل!... يصعب عليك التدقيق في ما إذا كان طبيعيًا أم لا، لكن في الغرفة رائحة عطِرة بالفعل... وكأنك في مركز للعناية... شعورٌ لطيف... حتى أنهم حضَّروا لك ملابس نظيفة، مرتبة بعناية في انتظارك بعد انتهائك من الاغتسال.

ما الذي يأخذك للاغتسال الآن؟ أنت تريد الهرب... مع أن الفكرة جذابة، وكأنك في حالة تعرّق، أهو القلق؟ ألم تكن عارياً في الخارج والبرد يلفك من كل صوب؟ ما الذي تريده الآن، ما الذي تشعر به؟ ما الذي يزعجك، العرق، البرد، الخوف؟ أهلكتك وأتعبت يديك، تلك الصبية التي ظلت تهزك من معصميك، تمطرك بزخٍّ لا ينقطع من الأسئلة؟ تريد أن تصرخ بها: لا أعرف! لكن الحلم لا يأتيك بالصوت حينما تريد. من هي؟ أتعمل في مركز العناية؟ كيف دخلت، هل استنجدت بها لمساعدتك؟ كيف وصلت للحمّام تراقب ساشا ينهض من المغطس ببزة وربطة عنق، بلا نقطة بلل، ويمسك ليفة لم تستخدم قبل الآن؟ هذا تعرفه يقينًا، فالليفة يابسة... حتى أنها لا تلين بسهولة رغم كل الشد، كأنه يعصر الليفة بلا جدوى، أحقًا يمكن أن تقتل شخصًا لو أطبقت عليه بين كتفه وعنقه بليفة يابسة؟ وماذا تفعل أنت وراء القتيل تراقب ساشا؟

ألا تستحق، بعد هذا كله، خمس دقائق من الوقت المسمى واقعًا، لتستعيد توازنًا رتيبًا قبل النهوض إلى الضوضاء الوافدة إليك لتقدم لك خدمة اهتراء خيالك بالمجان؟ بين هذا الضجيج المبرح الذي يدمي أعصابنا كل يوم، ويهدد سلامة خلايا دماغنا، وبين المتنفس الليلي الذي على ما يبدو يتغول فيه الواقع بأرقه، فلا يتيح لنا الهرب ولا التجدد، تبدو العودة إلى نصيحة الدراسين في الذاكرة واجبة. تدوين الأحلام يفيد خلايا الدماغ وينشط الذاكرة.

قد لا تحمل الأحلام ما يفيد في التحليل النفسي، ولا في استنارة المجهول مستقبلًا، ولا تحتاج نباهة لتعرف أن رؤية من تحب في المنام، استدعاء فرضه الشوق. وقد تكون من الواثقين في حاستهم السادسة وتغريهم الأحلام بلفتات تزين بعضًا من أيامهم بتشويق حذر... فالحذر لازمة المتمسكين بحواسهم. لكن استدعاء الحلم، ومحاولة تذكره كتابة، تبدو فكرة ودودة للحفاظ على الذاكرة، من بابَيها الضيق والواسع. ستقوي عضلات الدماغ وتزوده بالفيتامينات كما تفعل حبوب الجوز والكاجو ونثرات السلمون... كل جملة، كما حبات الشوكولا الداكنة، قد تغني مخيلته بالماغنيسيوم، فتصبح أحلامه أمتع، وتمنح ذاكرته عمرًا أطول...