ذكريات جيل "بي.بي.سي" الذهبي..سلوى جراح لـ"المدن":بدأتُ يوم رحل "الملك"

فتات عيّاد
الخميس   2022/10/06
"مهما حدث لن تُسرق مني الذكريات وكل ما أنجزت في هذا المبنى الجميل، بوش هاوس. ولن أنسى، بل لن أقدر أن أنسى ما أنجزت فيه من عمل وعرفت من بشر ورددت لملايين المستمعين حول العالم العربي: هنا لندن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، وحين أنهي برنامجي أودعهم بابتسامة وجملة كنت أقولها بصدق: تقبّلوا تحيات سلوى جراح".

بهذه الكلمات علّقت الإذاعية والروائية سلوى جراح، على خبر إغلاق إذاعة "بي بي سي" العربية، حيث أن إنهاء وظائف عشرات الموظفين في هذا القسم بعد 84 عاماً على انطلاقته، لا ينهي مسيرة من صنعوا مجده ولا ذكرياتهم.

وبين "بوش هاوس" و"برود كاستينغ هاوس"، أجيال من الإذاعيين، بينهم سلوى جراح التي عاصرت المبنى القديم للإذاعة طوال 22 عاماً من الإعداد وتقديم عشرات البرامج الاذاعية التي رافقت ملايين المستمعين العرب، ومنها "الواحة" و"ندوة المستمعين" و"شارع الذكريات". واليوم تروي لـ"المدن" ذكريات عصية على النسيان، عاشتها في "بي بي سي" يوم كان "لكل شيء قيمة".


البداية من رحيل ملك الروك أند رول
بدأ مشوار سلوى جراح في إذاعة "بي بي سي" العربية العام 1977. وكفلسطينية نشأت في العراق، كانت بمجيئها إلى بريطانيا، تتعرف إلى ثقافة جديدة. وفي عمر الثلاثين، كانت تدرك أن لديها الكثير لتتعلمه هنا. وبعد أيام على وصولها بريطانيا، مات "ملك الروك آند رول" إلفيس بريسلي، فصرخ شبان بريطانيا: "The king is dead". وبحسها النقدي، علقت شاكية لأولغا جويدة، التي ستعتبرها أستاذتها الإذاعية لاحقاً: "يتهموننا نحن الشرقيين بأننا عاطفيون. لسنا وحدنا كذلك". وكان هذا التعليق كافياً ليحدد أول اختبار إذاعي لسلوى جراح في لندن، ما غيّر مجرى حياتها للأبد.

تقول جراح: "طلبت أولغا جويدة مني أن أكتب قطعة خبرية عن وفاة بريسلي. طارت بها من شدة إعجابها، وقرأتها في برنامجها "نصف ساعة مع أولغا جويدة"، ليبدأ منذ ذلك الوقت مشواري في بي بي سي بوتيرة سريعة وتصاعدية".

والحال أن مواهب جراح في الكتابة والإعداد والإلقاء والإخراج، لم تكن خافية على أحد، وبدأت الزوجة والأم مشوار 22 عاماً من مسيرة إعداد البرامج الإذاعية، فجالت البلاد تجمع أحاديث ومعلومات صحافية، يوم كان الوصول للمعلومة يحتاج بحثاً مضنياً، وغوصاً لساعات في الكتب، ولم تكن متاحة بكبسة زر على كومبيوتر مثلما هو الحال اليوم.

لكل سؤال جواب
وكانت البرامج الثقافية التي تقدمها "بي بي سي" مكتنزة وغنية تجيب على متطلبات شعوب عربية متعطشة للثقافة وفي جعبتها أسئلة تحتاج مَن يعطيها قيمتها، وهذا تماماً ما أجادته جراح. ومع تقديمها برنامج "لكل سؤال جواب"، لم تسلم من تعليقات زملائها، لعملها في "برنامج بهذه الضخامة" رغم أنها حديثة العهد في الإذاعة.

وأبت المذيعة الشابة إلا أن تضع بصمتها الخاصة، فكانت مبتكرة وجريئة في طرح مقاربتها، وأضافت بُعداً جمالياً على أسئلة المستمعين. فإذا سأل أحدهم عن المتنبي، أرفقت السؤال ببيت شعري له، ما جعل الرسائل تتدفق للبرنامج بشكل قياسي.

العالم بات ضنيناً
وجراح، السبعينية اليوم، ترى أن جيلها الإذاعي بدأ يندثر: "أبناء جيلي تعلموا كيف ينتجون برنامجاً مسجلاً من نصف ساعة، كتابة وإعداداً ومَنتَجة، وخَبِرنا تقديم برنامج على الهواء لمدة ساعتين من دون كلل، كالبرنامج المفتوح. لكنني لا أنكر أننا كنا محظوظين ونعشق ما نفعل، فالعالم كان معطاء، بينما بات العالم اليوم ضنينا جداً، وتلاشت قيمة كل شيء".

ويحزن كثيرون اليوم على إغلاق إذاعة "بي بي سي" العربية، أما جراح فتبدو أكثر تماسكاً، وبرأيها أن حقبة من عمر هذه الإذاعة انتهت منذ أن تم نقلها من مبنى "بوش هاوس"، لكنها لا تربط التغير بمكان العمل بل بأصحابه. وتكمل: "أحترم جيل اليوم وأشجعه فهو جيل المستقبل، لكن المذيعين الشباب لا يشبهوننا في مقاربتهم للعمل الإذاعي، فتغلب الفواصل الموسيقية على المحتوى الذي يقدمونه، وهم حولوا الخبر إلى وجبة سريعة على قاعدة: أعطِني من الآخِر. أما جيلنا، فكان يؤمن بأنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، وكان يجهد للوصول إليها وإيصالها للمستمعين. وقلة قليلة تفعل ذلك اليوم".

"بي بي سي" لم تجذب الشباب
وربطت "بي بي سي" إغلاق القسم العربي بـ"مواكبة التطور"، لكن جراح ترى أن محاولة الإدارة مواكبة التكنولوجيا هي ما أوصلتها إلى هنا. برأيها، لم تكن الإدارة مقتنعة 100% بالسعي إلى جذب الشباب، وظنت بأن التكنولوجيا وحدها تفي بالغرض، فلم تقم بجهد إضافي لمواكبة الزمن، و"غالبية الشباب كانوا يستمعون الينا في أوقاتهم المشتركة مع آبائهم، وليس بخيار فردي منهم. حتى أنني يوم أشرفتُ، في تسعينيات القرن الماضي، على برنامج ذي طابع شبابي، صُدمتُ بأن إدارة بي بي سي العربية كانت أول من حاربه".

نجوم الفن والأدب
مع كل النجاحات التي حققتها برامجها، بقي تقدير أعمالها من قبل مستمعيها هاجساً كبيراً لدى جراح. وتستذكر تعبير سائق سيارة أجرة في الأردن عن تقديره لبرامجها في إحدى المرات، وكانت تلك اللحظات تشعرها بأن "جهدنا الذي نبذله يصنع فارقاً". وباللكنة المصرية تردد العبارة كما سمعتها من صاحبها: "أنا من جمهورِك"، في إشارة الى الصحافي المصري أحمد بهاء الدين، مضيفة: "هؤلاء كانوا مستمعو بي بي سي في تلك الحقبة".

غير أن رهبة "بي بي سي" وعظَمتها وعراقة ما تقدمه، لم تكن تؤثر في المستمعين وحدهم، بل كذلك في ضيوف الإذاعة. فكانت فرحتهم باستضافتهم فيها "عظيمة"، من برنامج "الواحة" الذي استضافت فيه جراح شخصيات المعروفة من نجوم الأدب والفن، كالشاعر نزار قباني والمخرج يوسف شاهين والكاتب يحيى حقي والفنانة صباح والممثلة نضال أشقر، الى برنامج "موزاييك" الذي استضاف الكاتب نجيب محفوظ وغيره من أبرز نجوم الأدب.

تقاعدت جراح بعد 22 عاماً، تزامناً مع إغلاق وحدة البرامج والموسيقى في الإذاعة. ولم تستأنف عملها الإعلامي، "فلست راضية عن كثير مما يحصل في الإعلام اليوم لناحية الاستهانة بما يقدم للجمهور".



في المقابل، انكبّت جراح على الكتابة الروائية، لكنّ "بي بي سي" بقيت حية فيها. وفيما تشارف على طباعة روايتها الثامنة، ليست صدفة أن تتمحور روايتها الأولى "الفصل الخامس" حول خلفية العمل الإذاعي، وأن تدور كواليسها في مبنى "بوش هاوس"، لأن جراح المتمردة على كثير مما عايشته في المهنة، كان لا بدّ لها من فسحة تعبيرية.

"زوجي لا يُقبِّلني كما في السينما"
ولعل أكثر برامج جراح حضوراً في ذهنها، هو برنامج تثقيف جنسي بعنوان "عن الجنس بصراحة": "صنعتُه بنفسي وجُلت في خمس بلدان، هي المغرب تونس مصر الأردن والبحرين، وقابلت عشرات الأطباء، وعدت إلى لندن مع 20 حلقة. وتكمل جراح: "اقتصر كلامي في البرنامج على تقديمه، فعرضت مقابلاتي مع الخبراء والناس، وهم الذين تحدثوا معظم الوقت. وكنا نستخدم في البرنامج تعبير المثلية الجنسية للمرة الأولى، بعدما كانت تسمى الشذوذ الجنسي".

وفي البرنامج مثلاً تقول إحداهنّ: "زوجي لا يجيد تقبيلي كما يُقبّلون في السينما"، وتسألها سلوى عن عدد أطفالها لتجيبها بأن لديها 7 أطفال. وأخذ البرنامج ضجة كبيرة، مع استقبال 17 ألف رسالة، 4 منها فقط كانت على شكل اعتراضات.

"هناك خبير في مكان ما يستمع إليك"
وأوضحت جراح أن التغطية الآنية ليست حكراً على جيل اليوم، فيوم مات الكاتب المصري سعد الدين وهبة "اتصلتُ بزوجته سميحة أيوب معزّية، وقلت لها هل ترضين أن يطل برنامج موزاييك من دون التطرق الى وفاة زوجك؟ لتجيبني بالنفي، موافقةً على إجراء مقابلة معها، ضممتُها لفقرات البرنامج الذي عدّلت فقراته لهذا الغرض".

"سلوى، في كل مرة تقدمين فيها معلومة للمستمعين، عليكِ توقّع أنّ هناك خبيراً بما تقولينه في مكان ما، يستمع إليكِ"، هي إحدى نصائح اولغا جويدة التي حفظتها جراح عن ظهر قلب، وجعلتها لا تستهين بالبحث عن دقة معلوماتها. وهي كما دخلت للإذاعة مستعدة للتعلم، مازالت لليوم تشعر بغبطة في كل يوم تتعلم فيه معلومة جديدة.

ولعلّ في صورة سلوى الطفلة في عكا العام 1947، وصورة الجدة سلوى في لندن وهي تحاول إيقاف حفيدها عن تصويرها بهاتفها العام 2022، جَمعاً بين حقبتين من الزمن، اختلفت خلالهما وسائل نقل المعلومة وإدارة النقاش وفتح المواضيع بجرأة، لكن يبقى الإيصال والتواصل هو الهدف، وسيبقى للجيل الذهبي فضلٌ وذكرى ثمينة.