عندما يتعاطف سوريون مع أنور رسلان السنّي لا العلَوي!

وليد بركسية
الجمعة   2022/01/14
التعليقات التي أطلقها سوريون معارضون لنظام الأسد بعد الحكم على ضابط المخابرات السابق أنور رسلان، بالسجن مدى الحياة في ألمانيا، بوجود ميل غربي لمعاقبة الأكثرية السنية في البلاد وترك الأقليات من العلويين والمسيحيين وغيرهم "يسرحون ويمرحون"، تتخطى حدود خطاب المظلومية التقليدي الآتي من تحكم طائفة واحدة بمقدرات البلاد منذ خمسة عقود، نحو صياغة نظرية مؤامرة تعيد إلى الأذهان سؤالاً لا ينقاشه المعارضون كثيراً من مبدأ "قداسة الثورة" وهو: هل عارض كثيرون من السوريين نظام الأسد لأنه في نظرهم "نظام عَلَوي" يحكم غالبية من السنّة، فقط؟ وهل كان ذلك الموقف سيتغير لو كان حكم النظام "الأقلوي" أكثر عدالة وأقل إجراماً؟

وفي بلد تتواجد فيه سيادة القانون مثل ألمانيا، كان بالإمكان ملاحقة مجرمي الحرب في سوريا، عبر نشاط المنظمات غير الحكومية السورية والدولية التي تشكل في مجموعها صداعاً مستمراً لرموز النظام السوري، بسبب عملها المستمر على تتوثيق آلاف مقاطع الفيديو والصور والشهادات والرسائل الرسمية. وحتى لو لم يؤد ذلك حتى الآن إلا لمحاسبة مسؤولين صغار ضمن النظام، مثلما كان الحال في محكمة كوبلنز، فإن استمرار الضغط قد يؤدي إلى مزيد من المحاكمات والملاحقات مستقبلاً من جهة، كما يعني أن إعادة تأهيل بشار الأسد للبقاء كـ"رئيس شرعي منتصر" تبقى صعبة للغاية.

لكن القول أن ألمانيا كـ"دولة غربية متواطئة ضد الأكثرية السنية في البلاد" أصدرت حكماً على رسلان، ضابط الاستخبارات في فرع الخطيب سيء السمعة بالعاصمة دمشق، أتى فقط لأنه شخص سني وليس علوياً، يجافي الواقع. فألمانيا بديموقراطيتها ليست دولة من دول الشرق الأوسط الظلامية، واستقلالية القضاء فيها مكفولة بسبب الفصل بين السلطات. كما أن برلين التي كانت في مقدمة الدول المستقبلة للاجئين السوريين، مازالت حتى اليوم ترفض المساعي المختلفة لتعويم نظام الأسد، على المستوى الدبلوماسي.



ومثُل رسلان (59 عاماً)، والمسؤول الأمني إياد الغريب (44 عاماً)، أمام المحكمة الفريدة من نوعها، في مواجهة اتهامات بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية. وكان رسلان مسؤولاً رفيعاً برتبة عقيد، ترأس القسم 251 من المخابرات السورية، وكان مسؤولاً عن أمن العاصمة دمشق. وكان بالتحديد مسؤول الإستجواب في سجن الخطيب سيء السمعة قبل انشقاقه عن النظام العام 2013 ولجوئه في وقت لاحق إلى ألمانيا.

والمخيف هنا، هو الأصوات التي علت فجأة للنيل من ناشطي حقوق الإنسان والمدافعين عن الحريات عموماً في سوريا، بوصفهم أدوات لـ"المشروع الغربي". هذه الشيطنة الممنهجة للديموقراطية وحقوق الإنسان غير مفهومة من قبل أشخاص يقولون أنهم ثائرون من أجل الحرية! وإن كان خطابهم ككل يعزز خطاب الثورات المضادة ويعطي لموالي الأسد مبرراً للحفاظ على مواقفهم وتبرير العنف ضد المعارضين بوصفهم إرهابيين، فإن السؤال هو كيف يفرق أولئك عن نظام الأسد الذي يتحدث باللهجة نفسها؟ 

ومن المثير للاهتمام أن الحزن على رسلان لا يأتي لشخصه أو انشقاقه السياسي المزعوم، بل لدينه وانتمائه الطائفي، من قبل أشخاص يعرّفون عن أنفسهم بوضوح بأنهم مسلمون عرب سنّة. وإن كان ذلك يحيل إلى التدقيق في الهويات الطائفية التي تحكم بلداً ممزقاً مثل سوريا، فإنه يثبت أيضاً بأن الحرب المستمرة فيها منذ 10 سنوات كانت مجرد دليل على أن وجود هوية سورية جامعة لم يكن أكثر من وهم رومانسي في أفضل الأحوال، حيث يتخطى الدين/الطائفة المعنى الروحاني نحو المعنى السياسي ومنهما إلى المعنى الوجودي.

ولا يتعلق الأمر بسوريا فقط، بل هو مؤشر أكبر في دول الشرق الأوسط، التي يشكل فيها الدين محدداً للهوية على المستوى الشخصي والجماعي بدلاً من كونه مجرد اعتقاد. وكانت المنشورات المتعاطفة مع رسلان في "فايسبوك" و"تويتر" تتردد حتى في حسابات من دول المغرب العربي والخليج ومصر وغيرها! غابت فيها إلى حد ما الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي مارسها رسلان وأدت إلى الحكم عليه، لصالح الحديث عن العداء الغربي للإسلام والسنة، مع استذكار حالات أخرى مثل اعتقال السلطات الفرنسية للقائد في "جيش الإسلام" المتشدد إسلام علوش العام 2020.


وعلى غرار نظرائهم العرب، يشعر بعض السوريين السنّة على الأغلب بأنهم في خطر وجودي نتيجة سياسات محلية تهميشية، عززتها حملة الإبادة التي قام بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه، ضدهم، ومشروع التشييع الذي تقوم به الميليشيات الإيرانية. وفيما يشعر المعارضون عموماً بأن المجتمع الدولي تخلى عنهم، خصوصاً بعد تراجع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن خطّه الأحمر الشهير الخاص باستخدام النظام للأسلحة الكيماوية، العام 2013، تميل الفئة السنية الراديكالية هنا إلى تحويل ذلك الشعور إلى مقولة أن الغرب يعادي السنة السوريين فقط، وتقديم خطاب العداء للغرب الذي ربى نظام الأسد السوريين عليه عبر سياسات الأدلجة، من منطلق إسلامي/طائفي تعززه أيضاً الخطابات الإسلامية المتشددة في المنطقة، سواء تلك الآتية من رجال دين عرب أو من تنظيمات متطرفة على حد سواء.

والحال أن رسلان نفسه لم يحاول إخفاء ماضيه عندما لجأ إلى ألمانيا مع عائلته العام 2014، بل طلب بنفسه من الشرطة في برلين أن تحميه في شباط/فبراير 2015 وأخبرها بأنه كان ضابطاً في المخابرات السورية. والأكثر من ذلك أن دفاعه عن نفسه بحسب سجلات المحكمة التي نشرتها وسائل إعلام سورية معارضة ومراكز حقوقية، لعب على الوتر السني العلوي بالقول أنه كان مجرد موظف صغير يتلقى الأوامر. وتم ترداد الجُمل ذاتها من قبل سياسيين معارضين، مثل كمال اللبواني الذي قدّم شهادته في المحكمة، وصولاً إلى إعلاميين في وسائل إعلام عربية وسورية، بعد الحكم عليه.

تفريغ الحكم من مضمونه والابتعاد عن سياق العدالة التي تحققت في النقاش السابق، يرجع أيضاً إلى حالة إنكار للواقع، يصبح بموجبها رسلان منشقاً عن النظام لا مشاركاً في جرائمه ويصبح لدى آخرين جزءاً من الثورة نفسها ما يستوجب حمايته لا محاكمته، وهو ادعاء ساقط طبعاً بدليل وجود عناصر آخرين انشقوا عن النظام ولم يكتفوا بالصمت بل رفعوا أصواتهم عالياً للحديث عن الإجرام الأسدي ويبرز هنا المصور السوري المعروف رمزياً باسم "قيصر" والذي سرب نحو 55 ألف صورة مروعة تثبت وجود التعذيب في أقبية المعتقلات.



ومن المريح فعلاً أن تلك الخطابات قوبلت باستهجان أوسع من قبل المعارضين، تحديداً من قبل الناشطين والحقوقيين الذين ما زالوا يتصدون لواحد من أكبر الأخطاء الأساسية التي وقعت فيها المعارضة السياسية وهي الإصرار على الشوفينية العربية والإسلامية في أدائها السياسي والإعلامي منذ العام 2011، لدرجة أنها لم توفر لغير العرب وغير المسلمين شعوراً بأن تغيراً حقيقياً كان قادماً إلى البلد على شكل حقوق متساوية للمجموعات المهمشة سابقاً. ولم يكن من العبث بالتالي أن يكون الرد المثالي على المتعاطفين مع رسلان بأن السوريين لم يثوروا لاستبدال ديكتاتور علَوي بآخر سنّي.

وبعد أكثر من عشر سنوات على اندلاع الثورة في سوريا، كانت المحكمة في "كوبلنز" أول إجراء قضائي في العالم محوره فظائع يُتهم بارتكابها نظام الرئيس بشار الأسد. وفيما أشادت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بالحكم "التاريخي"، قالت منظمة العفو الدولية "أمنستي" أن المحكمة "ثبتت بشكل واضح ورسمي ظروف الاعتقال غير الإنسانية وأعمال التعذيب المنهجية والعنف الجنسي والقتل في سوريا"، وهو ما يحاول النظام إنكاره على لسان الأسد شخصياً في عدد من المقابلات الإعلامية، بموازاة وصفه صور "قيصر" بأنها نتيجة التلاعب بالصور عبر برنامج "فوتوشوب"، علماً أن تقريراً خاصاً أصدرته "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في حزيران/يونيو 2020، وثق مقتل 14388 سورياً تحت التعذيب، بينهم 14235 شخصاً قتلوا في معتقلات نظام الأسد منذ العام 2011.