سميرة سعيد تُلاعب اللغة

وليد بركسية
الجمعة   2021/07/16
من المفهوم ألا تعجب أغنية "مون شيري" التي طرحتها النجمة المغربية سميرة سعيد وغنت فيها كلمات تختلط فيها العربية بالفرنسية وقليل من الإنجليزية، كثيراً من الناس. فالمغنية الشهيرة بمحاولة كسر الحدود التقليدية في الموسيقى العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، تمارس ما قامت به دائماً وتكسر هذه المرة أصنام اللغة العربية التي طالما أحاطتها قدسية معينة حتى ضمن حيز البوب العربي المحدود من ناحية المفردات التي ينبغي أن تكون "لائقة" كي تحظى بقبول عام.

وبأجواء السبعينيات تغني سعيد (63 عاماً) للحب والسعادة والفرح، بصورة كلاسيكية لا تثير انتقادات الجمهور المحافظ مثلما كان الحال عندما غطت نفسها بالوشوم وذمت الرجل العربي الذي يتغير بعد الزواج ضمن أفكار نسوية في أغنيتها الضارب "سوبرمان" قبل سنوات، كما لم تقدم خيارات موسيقية خارجة عن المألوف مثلما هو الحال في أغنية "مازال". ربما لأن جوهر الأغنية يتمثل في معاصرتها من ناحية الكلمات "الهجينة" التي ينطق بها الملايين من الذين تشكل العربية لغتهم الأولى، في القرن الحادي والعشرين.


وكان اللعب على المفردات هنا وهناك كافياً لخلق الجدل وتحقيق شرط التجديد وإثارة بعض الانتقادات في "تويتر". لكن تلك المفردات لم تكن صادمة وبذيئة أو شهوانية مثلما كانت التهم تتوجه إلى كلمات أغنيات مطلع الألفية لنجمات شابات حينها كنانسي عجرم وهيفا وهبي وروبي ومايا نصري، بل حضرت "مون شيري" و"ميرسي بوكو" و"هيللو" ككلمات "رصينة" ضمن جمل عربية بحتة، وليس ضمن جمل منفردة بلغة أخرى منفصلة تماماً عن الجمل العربية، وهو خيار غير مألوف على الأقل ضمن موسيقى البوب السائدة "Mainstream"، حيث كان الفنانون يقدمون فصلاً تاماً بين ما ينطقون به، وصل أحياناً إلى حد الاستعانة بمغن آخر لتقديم المفردات الأجنبية، مثل حالة عاصي الحلاني وغريس ديب في أغنية "وإن كان عليا" العام 2002 أو جوزيف عطية وكيكي سي في أغنية غزالة العام 2019.

الاستعانة باللغات الأجنبية تبرز كثيراً عند تأدية فنان ما "كوفراً" لأغنية عالمية، أو بالأحرى عند الاعتراف بذلك بدلاً من ادعاء امتلاك الألحان وابتداع الكلمات. غريس ديب مثلاً غنت "كومو توا" للفرنسي جان جاك غولدمان مع إضافة مقاطع كاملة لها باللغة العربية، لكن ذلك الخلط يبقى محدوداً. أما البحث عن سبب ذلك فيحيل إلى تقديرات تبدأ من أن اللغة العربية، حتى بلهجاتها المحكية، حافظت ربما على قدسية ما مستمدة من اللغة الفصحى بوصفها لغة القرآن إلى جانب البعد الوطني/القومي الذي تحمله اللغة، على مستوى الدول العربية المنفصلة وعلى مستوى القومية العربية، الحاضرة في الخطاب السياسي العربي طوال عقود، وتحديداً في الدول التي هيمن عليها حزب البعث والتيار الناصري منذ منتصف القرن العشرين.

المثير للاهتمام هنا، أن أغاني البوب العربية كانت دائماً فقيرة جداً من ناحية الثراء اللغوي، وبقيت تستنسخ كلمات بعضها البعض من أكثر من 30 عاماً، لدرجة يتكرر فيها القول أن كلمات الأغاني العربية منذ الثمانينيات لا تتجاوز 200 مفردة فقط، والأسوأ ربما أن واحدة من أبرز عقبات تطور البوب العربي هو العمومية الشديدة في كلمات أغانيه، والتي تتنافى بشكل مثير للسخرية مع أساسات البوب العالمي حيث يجب التركيز على حالات أو لحظات وتكثيفها، وهي نقطة برعت سعيد في اللعب عليها لدرجة مقارنتها بالمغنية الأميركية مادونا، إحدى أشهر الأسماء في تاريخ البوب الغربي.

وفي العموم تركز كلمات الأغاني العربية على الحب والشوق والهجران وغيرها من التفاصيل الرومانسية، وتبدو موجهة في العموم للمراهقين، وبالكاد يمكن تلمس أغاني مختلفة عن ذلك السياق النمطي. وإن كانت سعيد مجددة في هذا المجال أيضاً، فإنها معاني "مون شيري" تبقى مألوفة. لا يشكل ذلك ذماً بالضرورة طالما أن ذلك المعنى يقدم بطريقة مبتكرة ويلامس تفاصيل دائمة الحضور في الحياة البشرية منذ القدم، أي كيف نحب وكيف نشعر عند الوقوع في الحب بوصفه لغزاً.

تجديد سميرة سعيد في السنوات الأخيرة ارتبط بشراكة ناجحة مع المخرج اللبناني نضال هاني الذي يتولى إدارة أعمال سعيد أيضاً. على أن "فيديو كليب" الأغنية الذي صور بأجواء السبعينيات بمفهومها العربي، ينفصل عن السياق الذي تقدمه الكلمات كتعبير عن الطريقة التي يتحدث بها أفراد في العام 2021. وربما كان الأجدى أن يتم تقديم الكليب من دون الـ"retro perspective" الذي يخلق حالة من الوهم بأن الماضي كان مكاناً أفضل من ناحية الانفتاح والتعدد الثقافي، وهو أمر قد لا يكون دقيقاً تماماً.

في لبنان، ومنذ سنوات طويلة، تحضر الإنجليزية والفرنسية ضمن اللغة المحكية بكثافة لطالما أثارت انتقادات من الدول العربية بشكل نكات قد تصل إلى حد التنمر والمضايقة وربما الشتائم. في سوريا المجاورة التي كان حزب البعث يعتمد فيها سياسة التعريب حتى بحق الأقليات العرقية كالأكراد، مازال استخدام مثل هذه المفردات من قبل أفراد ضمن مجتمعاتهم الضيقة يشكل إحراجاً في أقل تقدير، واتهامات ب"الميوعة" و"التخنث" أو بـ"الأمركة" على المستوى السياسي الحاضر في خطاب نظام الأسد إعلامياً عبر الشاشات والإذاعات والصحف.

لكن الواقع مختلف لأن أفراداً كثيرين في العالم باتوا يشعرون أن لغة واحدة لا تكفي للتعبير عنهم، وهو أمر تعززه، إلى جانب العولمة بالطبع، في حالة اللغة العربية عدة نقاط، من بينها انفصال المحكي عن المكتوب وتأثيرات ذلك على الأدب والموسيقى والثقافة، وما أفرزته شبكة الإنترنت من طرق جديدة للتعبير بما في ذلك استخدام الحروف اللاتينية للكتابة أو العكس ضمن ما يعرف باسم "العربيزي" وهي كلمة هجينة تجمع العربي بالانجليزي معاً. ومن هنا يمكن تفهم الجدل الذي يدور في "تويتر" حول ما تغنيه سعيد اليوم في "مون شيري".

والحال أن اللغة كانت في الماضي معبراً عن الهوية الثقافية والقومية، لكن ذلك الدور يبدو أقل أهمية اليوم للإنسان المعاصر، حيث يدور كل شيء حول العالمية، وتحديداً في مواقع التواصل التي كسرت الانتماءات الجغرافية الضيقة نهائياً. بالتالي ربما يكون تمسك البعض بأهمية العربية محكية كانت أم فصحى من "الشواذب الأعجمية" ولو ضمن أغنية بسيطة، سواء لكونها لغة مقدسة أو لغة قومية، في زمن انهيار الأديان والقوميات، إنكاراً للمستقبل، وليس للواقع فقط، لكنه حتماً تلخيص لصراع أكبر بين الأفراد والمنظومة القيمية السائدة، وهو بشكل مدهش يبقى غير محدد بفجوة أو عمرية أو جيلية بقدر ما تتحكم به تيارات سياسية ضمن أطر ثقافية ودينية أوسع.