الملحدون في لبنان: مواطنون درجة ثانية

يارا نحلة
الجمعة   2021/05/21
يضمن الدستور اللبناني حرية المعتقد والتعبير، بما في ذلك حرية دحض أي معتقد ديني. إلا أن هذه الحرية تبقى منقوصة ومشروطة بضوابط مجتمع الطوائف والعصبيات المذهبية الذي يحرس مقدساته من أي نقد أو استهزاء، وكأنها مسألة حياة أو موت. في مقابل مجاهرة المؤمنين بمعتقداتهم وطقوسهم الدينية، يتوقع من الملحدين أن يمارسوا إلحادهم في الخفاء، بعيداً من عيون المجتمع وشعوره الديني المفرط في حساسيته.

في محاولة لتسليط الضوء على التمييز الذي يتعرض له الملحدون واللادينيون، أعدت منصة "Freethought Lebanon" دراسة بحثية بعنوان "الملحدون في لبنان" تهدف الى كشف آليات التهميش والاقصاء التي تجعل من الملحد "مواطن درجة ثانية". وفق منهجية تمزج بين التوثيق والتحليل، تقارب الدراسة الممولة من "الوكالة النروجية للتعاون الإنمائي" مسألة الإلحاد من ثلاث زوايا أساسية، هي: القانون، والإعلام، والانتهاكات الحقوقية على الأرض.


انطلاقاً من بنية النظام اللبناني القائم على المحاصصة الطائفية التي تتدخل في كافة جوانب الحياة اليومية للمواطن، بما في ذلك التمثيل السياسي والوظائف الرسمية والزواج والميراث، خلصت الدراسة الى أن الإقصاء الممارس بحق الملحدين والخارجين عن الملل الطائفية لا يمس حرية المعتقد فحسب، بل يحرمهم أيضاً أبسط حقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الشخصية.

ففي الشق المتعلق بالتحليل القانوني، يشير التقرير الى المواد القانونية 473 و474 من قانون العقوبات على سبيل المثال، التي تستخدم لملاحقة "المجدّفين" وإدانتهم على خلفية نشر نكتة أو منشور يتناول المقدّسات. وتُستحضر هذه المواد "الضبابية والمطاطية" لتقييد حرية التعبير في مواقع التواصل الاجتماعي بذريعة ان "التعبير بحريّة عن معتقد أيّ شخص قد يؤدي إلى صراع طائفي وإلى تهديد السلم الأهلي"، حسبما جاء في التقرير.

ومنذ العام 2018 حتى اليوم، تم تسجيل أكثر من 16 حالة استدعاء لناشطين وصحافيين وفنانين بتهمة "التجديف واثارة النعرات الطائفية"، علماً أنه "في معظم هذه القضايا، طبقت الأجهزة الأمنية القانون بطرق استنسابية مخالفةً الإجراءات القانونية، وعمدت في كثير من الأحيان إلى إكراه الموقوفين على توقيع تعهدات أو إزالة مناشير".

من جهة أخرى، ألقت الدراسة الضوء على سلطة المحاكم الشرعية التي تكرسها قوانين الأحوال الشخصية، مع عدم توافر بديل مدني ومحايد دينياً لمن لا يعترفون بانتمائهم الديني. أما في تحليل التعاطي الإعلامي مع موضوع الإلحاد، عمد الباحثون الى جمع مواد إعلامية مرئية من أبرز المحطات اللبنانية، بغية تقييم خطابها ومدى انحيازه مع/ضد الالحاد والملحدين.

يتجلى هذا التحيز من خلال نمط الأسئلة وطريقة طرحها، خصوصاً تلك التي تحمل اتهامات مبطنة، ومن خلال الوقت المعطى للضيف الملحد كي يشرح وجهة نظره، بالإضافة الى الهدف من طرح موضوع الإلحاد في الحلقة والذي يكون أحياناً لدواعٍ فضائحية أو من أجل دحض الإلحاد والتأكيد على وجود الله.

وفي المحصلة، وجدت الدراسة أن نصف المواد التي تم تحليلها (7 من أصل 14 برنامجاً حوارياً) تحمل انحيازاً واضحاً ضد الملحدين، مقابل 4 مواد منحازة نوعاً ما، وثلاث مواد محايدة، ولم يجد الباحثون أي مواد منحازة إلى الملحدين.

كذلك، وثّق الباحثون 40 دراسة حالة لضحايا التمييز ضد الملحدين في لبنان، أوضحت في مجملها أن حوادث التمييز تقع في مختلف الأماكن من البيت الى مكان العمل والاحياء، وتأتي بأشكال متنوعة كالعنف الجسدي والنفسي، والإكراه على ارتداء الحجاب، والتهديد بالموت أو التعنيف، والاحتجاز غير القانوني، والتمييز السلبي في الوظيفة، وتقييد الوصول إلى التعليم والخدمات الاجتماعيّة، وتقييد حريّة التعبير عن المعتقدات الشخصيّة.

ومن الشهادات التي تضمنها التقرير، شهادة سامر، وهو رجل عابر(transgender) يرتدي الحجاب منذ سن الثامنة. وقال: "عندما بدأت بالنضوج، أصبحت أحسّ أنّني لست أنثى، بل أنا رجل عابر، أشعر بأنّي رجل، وأريد أن أتصرّف كرجل. هذا الإدراك جعلني أحسّ بالصدمة، لأنّ ما أشعر به يخالف التعاليم الدينيّة التي أؤمن بها. في ذلك الوقت أصبحت أقترب أكثر من الدين الإسلامي وتعاليمه. وكنت أتمنّى أن يساعدني الله لأتخطّى تلك الأفكار. لكنّ ذلك لم يساعد فعلاً. كنت قد بدأت الشكّ في صحّة الدين. مررت بفترة من الخوف والتردّد حيث شعرت أنّ كلّ ما كنت أؤمن به مجرّد أكاذيب. أتمنى أن يأتي اليوم الذي أخلع فيه قطعة القماش هذه عن رأسي، وأبدأ فعلاً رحلة تحوّلي لأعيش أخيراً وفق طبيعتي".

وهنا، يتكرر موضوع الحجاب في عدد من دراسات الحالة بوصفه رمزاً دينياً ذا أبعاد اجتماعية وجندرية كثيرة، ويصبح بالتالي أداة قمعية حين يتم فرضه على غير المؤمنات بتعاليم الدين وفرائضه، وفي حالة سامر على "غير المؤمنين" أيضاً.

إلى ذلك، تعكس الشهادات خطورة احتكام حياة المواطن الشخصية الى قوانين المؤسسات الدينية التي تمارس تمييزاً واضطهاداً واضحاً بحق النساء والمثليين. وعرضت الدراسة قضية حوراء توفيق التي انتهت معركتها مع المحكمة الجعفرية من اجل حضانة طفلها، بانتحار الأم، بعدما فقدت أي أمل في إنصافها. وبحسب شهادة أحد أصدقاء حوراء، فإن "عائلتها تخلت عنها بعد الإعلان عن إلحادها واضطرّت إلى الفرار من لبنان والعيش في مصر بعد تلقّيها تهديدات عنيفة ومتكرّرة بالقتل من قبل زوجها وعائلته".

وعليه، أكد التقرير على أن "حرية التعبير تتضمن حرية النقد والاستهزاء". وبالتالي فان انصياع الدولة، بقوانينها وأجهزتها القضائية والرقابية، لحساسيات المؤمنين ومقدساتهم، فيه انتقاص من حقوق الأفراد الآخرين وانتهاكاً لحريتهم.