"أعطوا لبنان فرصة".. نحن وأنتم

نغم ترحيني
الإثنين   2021/12/13
أذكر كم احتجتُ من الوقت قبل أن أستجمع قوتّي وأتجرّأ على طرح سؤالي الأوّل في الجامعة؛ إذ غالبًا ما بقيت استفساراتي في رأسي، وما خرجت إلا في محرّكات البحث الإلكترونيّة للقراءة أكثر عن معلومةٍ كانت ما تزال مبهمة بالنسبة إليّ. فهمت لاحقًا أنّ مشكلتي متعلّقة بالتربية الصارمة في المدرسة التي ارتدتُها منذ أولى صفوف الحضانة حتى التخرّج، وخوفي من أن يتمّ الاستهزاء بسؤالي إن طرحته -أو أسوأ من ذلك- أن أوصم بعدم الكفاءة أو الجدارة لأن أكون في هذا الموقع أساسًا. وجدت نفسي تباعًا أنفر من كلّ ما يحثّني على الطاعة، من دون أن يكون لديّ الخيار حقًّا في قول لا، وانسحب هذا الأمر على المراحل الأولى في تشكيل الوعي السياسيّ لديّ، وما يرتبط به من قيم عند مقاربة قضايانا اليوميّة.

 

تذكّرت هذا الموقف لسببٍ ما، بعدما شاهدتُ الفيديو الذي أطلقته "مجموعة النهار الإعلامية" والمجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ في لبنان، ضمن حملة مشتركة بعنوان "أعطوا لبنان فرصة". هراء. هذا أوّل ما تبادر إلى ذهني بعد مشاهدتي الفيديو، خلال ما يقارب الدقيقتين ونصف الدقيقة، حيث يظهر تباعًا أشخاص ذوو شهرة في مجالات الإعلام، والسياسة، والرياضة، والفنّ، والثقافة، في لبنان خصوصًا، والعالم عمومًا، مع رسائل متعدّدة بمضمون متجانس وواضحٍ يقول بصريح العبارة: "بدنا صفر اشتباكات هيدا الشهر".

إفعَل وإلا…
قرّرت أن أعفي أذنيَّ من عناء سماع الفيديو مرارًا وتكرارًا، قبل أن أدرك حجم المشكلة. وبدلاً من ذلك عمدتُ إلى تفريغ كلام الحملة على الورقة أمامي. يا للهول! يبدو أنّ الهراء لم يكن سوى الانطباع الأوّل. الواقع أنّ لغة الكلام فيها من الغرور، والاستهزاء، والاستهلاك، والاختزال، والانفصال عن الواقع ما يكفي لتكون هذه الحملة الراعي الرسمي لخطاب إقصائيّ بامتياز. تتوجّه حملة "أعطوا لبنان فرصة" إلى كلّ من يتعاطى الشأن السياسي في لبنان، وتفترض تقسيمًا كلاسيكيًّا للغاية للجمهور المستهدف ضمن فئتين اثنتين: نحن، وأنتم.

نحن تعبنا، ولن نستسلم. نحن نودّ لو نشعر بإنسانيّتنا، ونعيش في سلام. نحن نريد أن نستقبل أحبّاءنا، وأن نفرح بالعيد، وبالهديّة، وبالزيارات المتبادلة! نحن نحتاج إلى فرصة، ولتكن فرصةً لشهرٍ واحدٍ على الأقلّ!

أنتم ضدّنا. أنتم تعمّمون لغة الكراهية، وتحرّضون على الهجرة، وعلى الحرب، وعلى العنف. أنتم تثيرون استفزازنا، وتشتبكون، وتتظاهرون. أنتم لا تهتدون. أنتم لا تفكّرون، ولا تفهمون، وفكرتنا قد لا تصلكم أصلاً!

في الشكل ليست حملة "أعطوا لبنان فرصة" دعوةً لفضّ الاشتباكات السياسيّة فحسب، بل إعادة إنتاج سلطة تكرّس فوقيّتها أيضًا. يضع نجوم الحملة أنفسهم موضع الأستاذ، ويستعيدون بلا انكفاء المهلة الزمنيّة لتحقيق مطلبهم - مهلة نافذة ابتداء من اليوم الأوّل من هذا الشهر- أو كما نوّهت الحملة "ديسمبر، أو كانون الأوّل، أو شهر 12، أو هالشهر، أو 30 نهار، أو 720 ساعة"، مكتفيةً بهذا القدر من الأستذة. أمّا في المضمون، فتختزل هذه الحملة فئتها المستهدفة بمن استطاع إلى الأعياد سبيلًا، أمّا من تقطّعت بهم السبل، فلا هداية ولا هديّة لهم. هكذا تطلق الحملة لائحة أوامرها أو مطالبها -لا يهمّ- تحت طائلة الإقصاء: إمّا معنا أو علينا. 

لا ترفع صوتك.. راحتنا أوّلاً
حدث وسمع بعضنا، في الصغر، العبارة الشهيرة:"جايينا ضيوف؛ يلا عَ الغرفة. ما بدّي اسمع صوت!". أمّا لمن فاته الأمر، فتقدّم الحملة النسخة الجديدة -للكبار فقط- من أسلوب التأنيب حرصًا على المصلحة العامّة. شهر ديسمبر، شهر الأخبار الإيجابيّة. في النصّ المرافق لإطلاق الحملة، إشارة إلى أنّ أحد أسباب الدعوة إلى "صفر اشتباك" هو أن "يتمكّن المهاجر من قضاء فترة الأعياد مع الأهل والأصدقاء"، وكأنّ المهاجر -قسرًا أو طواعيّة- يعيش في الخَسَّة، وأنّ الاشتباك السياسيّ له شكلٌ محدّد، ووقتُ محدّد، ومكانٌ محدّد.

لطالما تجادلنا في جلساتنا، كأصدقاء ناشطين في الشأن السياسيّ، قبل أن يبقى مَن بقي.. ويسافر مَن سافر، في كيفيّة تقديم صورة لبنان إلى معارفنا من خارج لبنان. أذكر كيف كان بعضنا يصرّ على الاكتفاء بإظهار "الوجه الحسن" للبنان، من دون التطرّق للأزمات الراهنة وارتباطها بالسياقات التاريخيّة. ودائمًا ما كنت أضحك من هذه المقاربة الأحاديّة، وكأنّنا نعيش خارج التاريخ. كيف يمكن أن يكفّ الإنسان عمومًا عن الاشتباك السياسيّ مع ما حوله أصلاً؟ التخلي عن الاشتباك السياسي يعني، في الحدّ الأدنى، التخلي عن قيمة التضامن، وهي إحدى الأدوات الأساسيّة للدفاع عن القضايا المشتركة.

ما تدّعيه حملة "أعطوا لبنان فرصة"، من حبّ للوطن، يختزن الكثير من كره الآخر غير المنسجم مع ثقافتها. لا يعجب القيّمات والقيّمين على مطلب "صفر اشتباك"، مَن ليس لديه ترف التغاضي عن الاشتباك اليوميّ، مع انخفاض قيمة كلّ ما يملكه ويجنيه، ويخاف في كلّ يومٍ أن يضطر إلى بيع كرامته -ولا يكفي- لأنّ هناك من فضّل بثّ أخبار "الهدنة والسلام" عوضًا عن اشتباكٍ يوميّ لم يعد يرقى للظهور في الشاشة والدخول إلى كلّ بيت. وهنا المصيبة.