جعجع بشنب هتلر وعون بالبيجاما: حرب الصور المركّبة!

نور صفي الدين
السبت   2021/10/16
عمدت جريدة "الأخبار" اللبنانية إلى إبراز رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع على صفحتها الأولى مع مانشيت عريض ومقتضب يحمل كلمة واحدة: "حتماً". يبدو ذلك طبيعياً من هذا الوصف البسيط، لكن الصحيفة المقربة من "حزب الله" ألصقت وجه جعجع المقتطع من إحدى صوره ببزة عسكرية وأضافت له شنب الزعيم النازي أدولف هتلر، فيما عصبت يده بمنديل يحمل صليباً أحمر بدلاً من الصليب المعكوف الذي يرمز الى "النازية".


تدلل هذه الأركان الصوريّة الى موقف الجريدة الذي ترى فيه أن جعجع هو المسؤول عن "مجزرة الطيونة" الأسبوع الجاري. وبالمقابل، رد ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام النسق الاخراجي للجريدة، لكن باستبدال صورة جعجع بصورة الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، وفي خلفيتها مروحة دخان. أضيفت كلمة واحدة بايجاز وباللون الأحمر ليصير عنوان الغلاف المقابل "حتماً إرهابي".


في الصورتين، لم تتغير الملامح، ولم يتمدد حجم الرأس كما في الرسوم الكاريكاتورية مثلاً، بل أعيد بناء مشهد حول بورتريه الوجه لا يقوم بالضرورة على تغيير ملامحه وانما على إضافة مشهد حوله وسياق يتناسب مع القضية المعروضة مع تغيير بسيط في لون البشرة. وكما في الكاريكاتور تماماً، يتميز فن التركيب بالسرعة والايجاز والمباشرة، لا تنفصل الكلمة الموجزة عن الصورة، بل هي تأكيد لأفكار يفترض أن تكون من المسلَّمات، من وجهة نظر أصحابها على الأقل، فيما يمكن القول أن التلازم بين المنظور والمنطوق أصبح أمراً معقداً بفعل تنافس الصورة مع الكلمة واستخدامها كاستكمال لوظيفة الأولى فقط.

والحال أن الإعلام اللبناني يشهد في الآونة الأخيرة تبدلاً في الأدوات التعبيريّة لدى الصحف والمواقع الالكترونيّة، بالتوازي مع ارتفاع حدة المناوشات بين الوسائل الإعلاميّة المتباينة في وجهات نظرها وخصوصاً في ما تلى قضية انفجار مرفأ بيروت العام الماضي.

وإن كانت الصحف اللبنانية في السابق تخصص مساحة ثابتة للكاريكاتور، وهو الفن الذي كان يعبر عن ضرورة فكرية من أجل تشخيص الأخطاء والدعوة الى حل الأزمات الاجتماعيّة والسياسيّة والبيئيّة، فإنها باتت تستبدله اليوم بطريقة غير مباشرة  بعملية "إعادة تركيب الصور" ، والتي قد ينظر إليها من ناحية مهنية على أنها مجرد وسيلة لاجتزاء الحقائق وتعليبها.


ومع توجه الجمهور نحو الإعلام الرقمي والتقاذف الهائل للمعلومات كل لحظة، اعتمدت وسائل الاعلام والمواقع حديثة الولادة بشكل خاص على استحداث طرق تدعم وجهة نظرها، وتساعدها في التقاط انتباه القارئ، وتدفعه باتجاه المقصد الأساسي، وهو الاقناع والتصديق وإثارة الغضب. وإذا كان الكاريكاتور فناً يقوم على على تغيير في ملامح الوجه الطبيعية لعرض لحظة تفاعلية تشبه الكوميديا المسرحية، فان "إعادة التركيب" بالمقابل تبدو أشبه بممارسة مدروسة لايصال رسالة لجهة معينة وشد العصب الجماهيري.

على غرار جريدة "الأخبار" عرضت جريدة "الشرق" المتكلمة باسم "تيار المستقبل" هذا الأسبوع، صورة للرئيس ميشال عون وهو يرتدي "بيجاما" زهرية اللون مع عنوان "اللباس الرسمي للجنرال بمناسبة 13 تشرين 1990"، وهو تاريخ دخول السوريين الى قصر بعبدا ونفي عون خارج البلاد. مع الإشارة إلى أن الصورة مركبة وتنتشر منذ سنوات في مواقع التواصل الاجتماعي.


للمفارقة، فإن ما يميز الصحف عن غيرها هو تمتعها نظرياً بالجدية بالإضافة الى دورها في تدقيق الخبر والبحث عن مصدره، غير أن التحيز السياسي الشرس الذي تعانيه وسائل الاعلام اللبنانية دفعها الى تسخير طاقاتها بغرض الانقضاض على الآخر من طريق التشخيص والسخرية من دون تقديم معلومات رصينة، بصرف النظر عن هرطقة "احترام المقامات" و"كرامات السياسيين" التي لا تعني سوى تفاهة المنظومة الحاكمة. لكن السؤال هنا: ما الغرض من ذلك؟ وهل يمكن الاستفادة من السخرية في تيسير قراءة نقدية للأحداث؟

لا يمكن هنا، إنكار سرعة الأدوات الإنتاجية الجديدة في ترسيخ  الأفكار وتحقيق الانتشار، غير أن هذه الأدوات الفنية اليوم توظَّف في سبيل تدمير الآخر وإقصاءه والسيطرة على مساحة الخطاب، وتكمن خطورتها في استفزاز ردود فعل الأشخاص الذين قد لا يوافقون الوسيلة الإعلامية رؤيتها، فيما تقوم على توثيق الصلة وشد العصب بين الأشخاص الذين يحملون الموقف نفسه.

هذا الاتجاه السيكولوجي الذي يصب اهتمامه على استنفار الغضب والعداء، يتجاوز دور الاعلام في نشر الوعي والحقيقة واستقصاء الموكد ونقله بأمانة وحيادية، ويكرس دوره كطرف في النزاع يدفع باتجاه تبرير الانقسام وتعزيزه. وتصبح عمليات إعادة تركيب الصور المتبادلة بالتالي بمثابة قنبلة موقوتة مغلفة بمشاعر الحقد والغضب والرغبة من النيل من الآخر بأي طريقة، تبنى ببطئ ولا تظهر دفعة واحدة، خصوصاً أن الإعلام نفسه ليس مستقلاً، فلا يمكن لـ"الأخبار" أن تنشر صورة مماثلة عن نصر الله مثل تلك التي نشرتها عن جعجع. والعكس صحيح.


ومن اللافت أيضاً أن هذا الأسلوب اعتمد سابقاً من قبل المواقع المستقلة مثل موقع "ميغافون" الذي يعتمد على مبدأ "انتاج محتوى توضيحي متعدد الوسائط لتغطية الأخبار المحلية بأشكال ملائمة للاعلام الرقمي". غير أن المحتوى التوضيحي أيضاً لا يعني بالضرورة أن يتميز بالحيادية. ويعني ذلك أن محو ملامح الوجوه وتحريفها وانتقاء صورة تبرز انفعالات تتناسب مع الخبر وإضافة مؤثرات فنية، كلها تجرد الصورة الأصلية من محتواها... مع الإارة الواجبة إلى الموقف المهني المميز لـ"ميغافون" ووقوفه إلى جانب الضحايا وحقوق اللبنانيين في القضايا التي يتناولها.

في بلد تكثر فيه الأزمات، ويستعر فيه القتال نتيجة اختلاف في الرأي أو شجار على أحقية مرور أو تجاذب طائفي حول تعليق صورة، لا يأبى الاعلام تحصين رسالته من الفتنة، كما لا يمانع غالباً إيقاذها بطرائقه الخاصة. وقد يصل به الأمر الى استثمار أدواته الحالية في حرب يقودها بالوكالة عن الأحزاب السياسيّة. وتصبح هذه الأدوات التفكيكيّة والتركيبيّة في آن معاً، وسيلة "لاعادة تشكيل حقيقة" ومواجهة الآخر، وفي كثير من الأحيان مجرد "وسائل فبركة الحقيقة ومحاربة الآخر".