الدولة الأكثر جاذبية في العالم

وليد بركسية
الثلاثاء   2020/06/02
قبل أسبوع واحد فقط، كان فيروس كورونا المستجد هو الحديث الشاغل للكوكب بأسره، رغم تراجع معدل الإصابات، وتخفيف القيود التي فرضت بشكل عام، في عدد من دول العالم. لكن كل ذلك تغير بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية، وتوجه الأنظار كلها نحو ما يجري في مدينة منيابولس بولاية مينيسوتا. وفيما يتم الحديث باستمرار عن تراجع الهيمنة الأميركية وانتهاء زمن الأحادية السياسية ونشوء أقطاب جديدة، وما شابه ذلك من تحليلات سياسية، فإن الولايات المتحدة، تبقى حتى الآن الدولة الأكثر جاذبية في العالم، مهما كان نوع الحدث الذي يجري فيها، مأساوياً كان أم سعيداً، ثورياً أناركياً وفوضياً أم منظماً ومؤسساتياً.


ولا يمكن تلمس الاهتمام بما يجري في الولايات المتحدة من مواقع التواصل التي تصدرت فيها شعارات المحتجين الأميركيين لوائح المواضيع الأكثر رواجاً في دول العالم، فقط، بل أيضاً في العديد من المدن الأوروبية التي شهدت تظاهرات واحتجاجات تضامنية مع المحتجين على الطرف الأخر من الأطلسي. وهي تجمعات لم يكن من الممكن تخيل حدوثها قبل أسبوع واحد فقط، بسبب الإجراءات الخاصة بالتباعد الاجتماعي والوقاية من فيروس كورونا المستجد.

وإن كان هنالك آلاف الشامتين بالولايات المتحدة، والمروجين لنظرية الانتقام الإلهي من "الشيطان الأكبر"، كما هو الحال بين موالي نظام الرئيس السوري بشار الأسد على سبيل المثال، والذين يتوهمون أن الرب ينتقم لهم ويتسجيب لدعواتهم، فإن هنالك ملايين آخرين مازالوا يتطلعون إلى الولايات المتحدة كمصدر للإلهام بوصفها الدولة القائدة للعالم الليبرالي الحر، بشكل يفسر جزئياً قلة الاهتمام الموازي بحوادث أكثر فجاعة قد تجري في بقية دول العالم، وتحديداً تلك الدول الشمولية التي لا يرتجى منها تقديم ما يفيد البشرية، بعكس الأمل العام بوجود نموذج أميركي يحتذى به، وتحديداً في أوقات الأزمات الداخلية التي من المفترض أن تأتي بغد مشرق يضمنه النموذج الديموقراطي الذي يطور نفسه بنفسه، نظرياً، مع مرور الزمن لصالح الناس أولاً.

وكل ذلك بالطبع يحدث في زمن غير مستقر شهدت السنوات الأخيرة منه حرباً على الديموقراطية بطرق مباشرة وغير مباشرة، من ضمنها التدخلات في الانتخابات الأميركية العام 2016 التي أوصلت الرئيس دونالد ترامب إلى قمة السلطة الأميركية. وبغض النظر عن كون ترامب تجسيداً للديموقراطية أم عاملاً يساهم في هدمها من الداخل، فإن مواقع التواصل تمتلئ بالمقاربات التي تصف ترامب بالشمولية والديكتاتورية والأسدية والنازية وغيرها، بسبب تغريداته المثيرة للانقسام، والتي رغم كونها لا تفاجئ أحداً لكونها متكررة منذ أيام حملته الانتخابية الجدلية العام 2016 على اقل تقدير، فإنها تبقى مستهجنة. والملفت للنظر أن هنالك تياراً عاماً في التغريدات يرى في ترامب تجسيداً للمشاكل الأميركية وليس مصدراً لها، بعكس ما جرت العادة عليه في السنوات الماضية التي شهدت حوادث عنصرية مختلفة، مثل أزمة الأطفال المهاجرين العام 2018 أو الأوامر التنفيذية الخاصة بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة العام 2017.

المختلف هنا أن مقتل فلويد ليس حدثاً يخص تعامل الأميركيين مع الغرباء، بل يخص تعامل الأميركيين مع بعضهم البعض، ويحيي نقاشاً حول قيم المواطنة والمساواة في بلد كانت فيه العبودية نظاماً اقتصادياً مؤسساتياً إلى حين إقرار التعديل الثالث عشر للدستور الأميركي العام 1865 إثر الحرب الأهلية، والذي أسس في الواقع لمشكلة الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة، بإعطائه ثغرة قانونية تسمح بـ"العبودية" أو العمل بالسخرة، كعقاب على ارتكاب جريمة. وفي تلك الحقبة شهدت ولايات الجنوب المتضررة من إلغاء العبودية بتطبيق سياسية الاعتقالات الجماعية بحق الأميركيين من أصول أفريقية، وتحول ذلك مع مرور الزمن إلى نوع من العرف الذي يقضي حتى اليوم باعتقال أصحاب البشرة الداكنة لأتفه الأسباب، وهو ما يدل عليه ربما مقطع الفيديو المؤثر للممثل دينزل واشنطن الأسبوع الماضي، وهو ينقذ رجلاً من الاعتقال بتهمة التسكع.

ولا يمكن فصل هذ السياق التاريخي المستمر عن وجود ترامب نفسه في البيت الأبيض، فالرجل القادم من عالم الاقتصاد والعقارات وتلفزيون الواقع، وصل للرئاسة بدعم من الناخبين البيض الذين مازالوا يدافعون عنه بشراسة في مواقع التواصل، وردوا على شعار "حياة السود مهمة" بشعارات تميع الموضوع مثل "حياة كل الناس مهمة"، وهو أسلوب يقوم بذر الرماد في العيون، عبر الالتفاف حول العنصرية بدلاً من مقارعتها بوضوح. وإن كان ترامب هو أول رئيس للولايات المتحدة من دون امتلاك خلفية عسكرية أو دبلوماسية سابقة، فإنه جذب طبقة الناخبين البيض تحديداً عبر حملة انتخابية بناها على مخاوفهم الاقتصادية لرفع الظلم المزعوم الذي أفرزته سياسات سلفه باراك أوباما ضدهم، رغم أن سياسات أوباما لم تغير جذور السيستم الأميركي الذي وقفت في وجهه حركات الكفاح المدني طوال عقود، بل هزته من جذوره بكونه أول رئيس أسود البشرة يصل للبيت الأبيض.

وإن كان ما يقوم به ترامب، فرضاً، جزءاً من دعايته الانتخابية الجديدة قبل انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وبالتحديد تغريداته العنصرية التي وصلت حداً مقلقاً دفع عمدة واشنطن موريل باوسر لدعوة ترامب إلى " الكف عن نشر تغريدات تثير الانقسام والتي من شأنها تذكير العنصريين بماضي البلاد"، مع تهديده للمحتجين بـ"الكلاب الشرسة" والأسلحة "الأكثر خطورة" في حال خرقهم سور البيت الأبيض، فإن آخر استطلاع للرأي قامت به صحيفة "واشنطن بوست" وشبكة "إيه بي سي"، أظهر تفوق المرشح الديموقراطي جو بايدن عليه بعشر نقاط كاملة، للمرة الأولى. وبالتالي قد تشهد الأيام التالية تراجعاً في حدة خطاب ترامب ولغته، بعد إشاعته للطمأنينة بين الطبقة الداعمة له في الأيام الأولى من الأزمة.

في ضوء ذلك، يمكن القول أن تناسي العالم لمشاكله أمام الحدث الأميركي يقابله تركيز الأميركيين أخيراً على جذور مشاكلهم المتراكمة. ويبقى التفاعل مع المشهد الأميركي في الشرق الأوسط، وتحديداً من أعداء قيم الحرية الذين تضمهم قائمة لا تنتهي وتبدأ من المبهورين بالنموذجين الصيني والروسي في الحكم إلى أنصار الأنظمة العربية الشمولية وليس انتهاء بالإسلاميين، مسلياً، حيث السباب الإلكتروني ضد "الهمجية الأميركية" وعنف الشرطة ضد المحتجين والحديث عن عظمة الحضارات المحلية والأديان السمحة و"القيادات الحكيمة".

ومن نافل القول أن أياً من دول المنطقة لا تحظى بالرفاهية لنسيان مشاكلها أو تاريخها في قمع المحتجين، والذي وصل في سوريا، حد قتل نحو نصف مليون شخص وإصابة مليونين آخرين بجروح مختلفة وإعاقات دائمة وتشريد 12 مليوناً من أصل 23 مليون سوري، بين نزوح داخلي ولجوء خارجي، فيما تهدد المشاكل الداخلية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية استقرار المنطقة لقعود مقبلة في حال عدم التوصل لحلول تنهي المظالم السياسية المتراكمة، التي تتكاثف في ثنائية الاستبداد السياسي والديني.

وإن كان الأسبوع الأميركي الأخير "مظلماً"، فإن النقطة المضيئة الوحيدة فيه هي النشاط العام الذي يبرز قوة الناس العاديين كناخبين يحددون مسار السلطة وتقلبها كل أربع سنوات في انتخابات حرة، ولو عبروا عن أنفسهم بعنف وفوضى لا يمكن انتقادها أو السخرية منها أو وصفها بالهمجية، مثلما يكرر أصحاب "إتكيت التظاهر". وليس من المفاجئ هنا، تذكر المغردين قولاً قديماً لوزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد أثناء حرب العراق العام 2003، قال فيه: "في حين لا يتغاضى أحد عن النهب، فإنه من الممكن، على الجانب الآخر، فهم المشاعر المكبوتة الناجمة عن عقود من القمع وتنفيس أناس، قتل أفراد من أسرتهم من قبل النظام، غضبهم على النظام نفسه".