التحقيق الاستقصائي الذي جرّ رئيس وزراء فرنسياً الى المحاكمة

حسن مراد
الثلاثاء   2020/03/03
فرنسوا فيون وزوجته بينيلوب
قضية الفساد التي فجرتها صحيفة Le Canard Enchainé في عز معركة الانتخابات الرئاسية العام 2017، وطاولت رئيس الوزراء الفرنسي السابق فرنسوا فيون وزوجته بينيلوب وأحد معاونيه، لا زالت تشغل الرأي العام الفرنسي: كيف وصلت الصحيفة إلى هذه المعلومات؟ وهل كان بإمكان فيون تدارك ما جرى لو أحسن إدارة ماكينته الإعلامية؟ وهل أقدم فعلا على ارتكاب ما ينسب إليه من تهم؟
وانطلقت الاسبوع الماضي محاكمة فيون وزوجته وأحد معاونيه، أمام محكمة جنايات باريس للنظر في عدة قضايا فساد أبرزها تهمة تلقي زوجته راتبا لقاء عملها كمساعدة برلمانية له، وهي وظيفة يشتبه أن تكون وهمية.

وعلى اعتبار أن رواتب المساعدين البرلمانيين تدخل ضمن ميزانية الجمعية العمومية، يواجه المتهمون في هذه القضية تهمة اختلاس أموال عامة ما يعرضهم للسجن لمدة قد تصل إلى عشر سنوات إلى جانب غرامة قدرها مليون يورو.

الصحافيون الثلاثة الذين أجروا التحقيق الاستقصائي نفوا بصورة قاطعة أن يكون أحدٌ ما قد تطوع لتوجيههم. فعقب فوز فيون في الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين في تشرين الثاني 2016، تنبه كلٌ من ايرفيه ليفران، إيزابيل باريه وكريستوف نوبيلي أنهم لم يتقصوا حوله بما فيه الكفاية. صحيح أنه تولى رئاسة الحكومة طوال عهد نيكولا ساركوزي، إلا أن الأخير تعمّد تهميشه، وعليه لم يجذب فيون انتباه الصحافة الاستقصائية طوال تلك السنوات.

بدأت Le Canard Enchainé بتعقبه على النحو الاعتيادي من خلال التدقيق بالدرجة الأولى بمصادر دخله وأفراد أسرته، وهنا عثروا على طرف خيط دفعهم للشك: في العام 2014 صرح فيون للهيئة العليا للشفافية السياسية أن زوجته التحقت بفريق عمله النيابي إلى جانب انضمامها لأسرة مجلة La Revue des Deux Mondes ككاتبة ومستشارة ثقافية. 

سبب الشكوك هو تصريحات سابقة لبينيلوب فيون أكدت خلالها لوسائل إعلامية أنها مجرد ربة منزل. من جانب آخر، تقاضت بينيلوب من المجلة عشرة اضعاف ما يمكن أن يتقاضاه أي شخص يشغل وظيفة مشابهة. وأخيراً، جمعُها في فترة معينة لوظيفتين بدوام كلي، مسألة غير طبيعية لا بل غير قانونية. توسع الصحافيون في التحقيق حتى عنونوا في كانون الثاني/يناير 2017 أن مجموع ما تقاضته بينيلوب من رواتب مشكوك في أمرها بلغ 600,000 يورو
 
في تشرين الأول/أكتوبر 2018، دانت المحكمة صاحب المجلة مارك دو لا شاريير في قضية توظيف بينيلوب فيون. هو حكم قضائي ضاعف الشكوك حيال تجاوزات أسرة فيون وباتت الأنظار شاخصة أكثر من ذي قبل على القضية الأم: الرواتب التي تقاضتها بينيلوب من الجمعية الوطنية الفرنسية لقاء وظيفتها المزعومة، رواتب تكبدها دافعوا الضرائب.

فرنسوا فيون أكد مراراً أن زوجته كانت تنظم له مواعيده وتنوب عنه في المناسبات التي تعذر عليه حضورها، مقدماً مستندات لإثبات حجته إلا أن الجهات القضائية اعتبرت هذه الدلائل غير مقنعة. ترافق الأمر مع معركة إعلامية طاحنة حيث خرج سياسيون وصحافيون على وسائل الاعلام لينفوا علمهم بعمل بينيلوب إلى جانب زوجها. لكن الأبرز كان إعادة نشر مقابلة تعود للعام 2007 اجرتها بينيلوب فيون مع صحيفة Sunday Telegraph نفت خلالها العمل إلى جانب زوجها.
هنا بدأت تُطرح التساؤلات حول وجود مؤامرة ما. 

وجهت أصابع الاتهام بداية إلى وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي فأعيد التذكير بتغريداتها عام 2014، حين هاجمت فيها فرنسوا فيون ملمحة إلى هذه المسألة. وما عزز الشكوك حيال داتي أنها من المقربين لنيكولا ساركوزي، أحد ألد خصوم فيون. 

من جهته، بدا فرنسوا فيون مقتنعاً بنظرية المؤامرة التي تستهدفه، لكن الفاعل بنظره كان رئيس الجمهورية السابق فرنسوا هولاند حيث اتهم قصر الإليزيه، من على شاشة France2، بالإشراف على غرفة عمليات سوداء.  

حتى الآن لم يتم حسم الجدل حيال طريقة حصول صحافيي Le Canard Enchainé على المعلومات المذكورة، هل تم ذلك بجهود ذاتية أم بمبادرة من أحد خصوم فيون؟ 

نظرية ثالثة شقت طريقها، مفادها أن الصحافيين وبعدما امسكوا بطرف الخيط، قصدوا أشخاصاً يمتلكون المعلومات المطلوبة ومستعدين للإفصاح عنها بسبب خصومتهم مع فيون. بمعنى آخر، أحسن الصحافيون التوجه إلى من وفر لهم ما ينقصهم من قرائن حتى يكتمل المشهد. هم أشخاص ترفض Le Canard Enchainé كشف هويتهم عملاً بمبدأ حماية مصادر معلومات التي تشكل إحدى ركائز العمل الصحافي.

في المحصلة، جاءت هذه الفضيحة لتطيح الدعاية الاعلامية التي بناها فرنسوا فيون حول شخصه طوال أكثر من ثلاثين عاماً، تحت عنوان النزاهة ونظافة الكف.
 
من جانب آخر كانت هذه الفضيحة محط تساؤل إعلامي دائم خلال المعركة الانتخابية ما أجبر فيون على تخصيص جزء من إطلالاته للرد على هذه التهمة عوضا عن التفرغ لعرض برنامجه الانتخابي ما ساهم باستنزافه إعلامياً. 

لكن هل كان مجرد الإفصاح عن هذا الجانب من حياة فيون كافياً للقضاء عليه سياسيا؟ 
في الواقع، تواصلت صحيفة Le Canard enchainé مع فرنسوا فيون منذ كانون الأول/ديسمبر 2016 لاستيضاح موقفه قبل النشر إلا أنه لم يأخذ الأمور على محل الجد ولم يستجب للرد على تساؤلات الصحيفة، كما لم يبلغ أياً من فريق حملته بالأمر. أساء فيون التقدير، فلو قارب الأمور بجدية لتمكنت ماكينته الإعلامية من الاستعداد لهذه المعركة بدل اتخاذ وضعية الدفاع الدائم.  

من جهة أخرى، وقع فيون ضحية فخّ نصبه لنفسه. فبعد يومين من نشر التحقيق، خرج على محطة TF1 ليعلن أن ما قد يحول دون استمرار ترشحه هو استدعائه للتحقيق. اعتبر البعض هذا التصريح دليل براءة إذ لا يعقل الإدلاء به إن لم يكن بعيداً عن كل الشبهات. لكن حين تحرك القضاء واستدعاه للتحقيق في آذار/مارس 2017، لم يلتزم فيون بتعهده ما افقده الكثير من المصداقية وشوه صورته الإعلامية. 

هل كان تصريحاً غير مدروس وابن ساعته؟ فرضية محتملة. لكن آخرين يعتبرون أنه تفوه بهذه الكلمات بناء على حسابات خاطئة: اعتبر أن الأجواء الانتخابية ستردع القضاء عن التحرك ضده حتى لا تُتهم السلطة الثالثة بالتأثير على مسار الاستحقاق الرئاسي. انطلاقا من هذه القناعة غامر فيون وأدلى بهذا التصريح على سبيل الهروب إلى الأمام.
في هذا الإطار يصح التساؤل: لماذا لم ينسحب من السباق الرئاسي؟ 

من المؤكد أن اختيار مرشح اليمين بناء على انتخابات تمهيدية أعطى فيون نوعاً من الشرعية الشعبية بخلاف الاستحقاقات الرئاسية السابقة حين كان مرشح اليمين يكتفي بالشرعية الحزبية. بالتالي لم يجرؤ أحد من داخل الحزب على خوض هذا الكباش بشكل علني وتوجيه الضربة القاضية لفيون حتى لا يتهم بأنه يتحدى إرادة الفرنسيين. 

أضف إلى ذلك أنه بعد خسارة ساركوزي في للانتخابات الرئاسية عام 2012، عرف حزب الجمهوريين خلافات داخلية حادة كادت تفضي إلى انشقاق، وحين تفجرت فضيحة فيون لم يكن قادة الحزب على استعداد للحوار والتفاهم في ما بينهم بسبب تلك الخلافات السابقة. مناخ سمح لفيون بالسير في ترشيحه. 

رغم مرور ثلاث سنوات على القضية ما زال فرنسوا فيون مقتنعاً بمظلوميته وفقاً لمقربين منه. لكنه، حتى لو تمكن من انتزاع حكم بالبراءة، عليه إدراك أن الشارع الفرنسي لم يعد يتقبل الامتيازات المادية التي يستفيد منها الساسة، ما يفرض عليه حداً أدنى من التواضع وحتى النقد الذاتي.