الكاريكاتير في "سوريا الأسد": المضحك المبكي لأسباب غير فنية

فاطمة ياسين
الإثنين   2020/02/17
في رسوم "الوطن"، تتصدّر القضايا المعيشية، على حساب السياسية
منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وصحافة النظام السوري تسير وفق خط بياني منحدِر. تحسنت نوعية الورق وتلونت بعض الصور وصارت الكلمات أوضح، لكن الصحف الرسمية حافظت على الرقم 12 كعدد ثابت لأوراقها، وهي تتمسك بشكل عجيب بالنظام الستيني الذي يتبنى الرقم 12 كوحدة من وحداته. وحافظ المتن الصحافي على بيروقراطية الشكل والصياغة وحافظت العناوين الرئيسية على الجرس الخطابي، مبرزة شعارات المرحلة وأخبار رأس النظام وصوره، فيما ظلت التحليلات وزوايا الرأي متجمدة عند نقطة التبرع بالشرح والتحليل ومغلفة دائماً بمقدار أكبر من التطبيل والهيصة الاحتفالية بالانتصارات مهما كانت فجاجة عبثيتها ودجلها.


أما فن الكاريكاتير الذي تتبناه الصحف العالمية كمادة أساسية، وتقدمه في أكثر من صفحة كمساهمة في إيصال الرأي والخبر بشكل بصري طريف، فتحاول صحف النظام أن تتحاشاه قدر الإمكان، لكونه مرتبطاً بالنقد وربما الوخز أحياناً، وبتوجيه الرؤية إلى قضايا مهمة بطريقة ملفتة ومثيرة للانتباه.

وقلَّلت جريدة "الثورة" من تواجد الكاريكاتير في صفحاتها، فلم يعد موجوداً بشكل يومي. ومؤخراً، مثلاً، لم نرَ إلا لوحة تشير إلى عجز الأمم المتحدة في قضية الأسرى، وليس المقصود هنا بالطبع معتقلي الرأي في سجون نظام الأسد، بل هم أسرى آخرون.



أما صحيفة "تشرين" فلديها باب يومي للكاريكاتير، لكن ذلك الكاريكاتير يركز على الهم السياسي ومؤامرات الصهيونية العالمية والإمبريالية، بشكل يبتعد كل البعد من قضايا السوريين المقتولين والمحاصرين على أرض وطنهم أو الهاربين من جحيمها.



وما زالت صحيفة "البعث" تنشر على الطريقة التقليدية كاريكاتيراً واحداً في صفحتها الأخيرة. وبصفتها الناطقة الرسمية باسم الحزب الحاكم، تعطي لنفسها الحق بمساحة من "النقد الذاتي"، فتنشر كايركاتيرات تتناول جانباً من الهم اليومي للمواطن، كنقص الخبز أو انقطاع الخدمات، لكن همها المفضل يبقى "مناكفة الإمبريالية" كما يليق بجريدة عقائدية من هذا المستوى.



ولعل الجريدة الوحيدة التي تكاد تحتفي بالكاريكاتير هي "الوطن"، التي تعرِّف عن نفسها بأنها "سياسية مستقلة". وكبرهان على الاستقلال، كرَّس رسامها عبد الهادي شماع، جهده، لإخبار القراء بأن هناك في البلد مشكلة في الوقود والعملة وغيرها، في تركيز مقصود على الحياة العامة من دون التطرق إلى أسباب المشكلة. ويبرز هذا المستوى الهزيل والساذج من الكاريكاتير، حال النقد في الصحف المتوافرة بين يدي المواطن السوري. وفي المقابل، تبدو هذه الصحف مشغولة إلى أقصى حد بنشر منازعات العقارات، والشكر على تعزية، وإعلانات قبول التطوع في الجيش.



ولا يتوقع أحد من هذه الصحف، بوصفها دوائر رسمية، أن تخرج عن الخطوط المرسومة لها، فهي تقدّم الكاريكاتير بالطريقة "اللائقة" التي تعجب النظام، وتغالي في تجنب أي إشارة لما يغضبه، كما تقدم موقفها الذي يحتقر الكاريكاتير بطريقة غير مباشرة، إما بتجاهله بشكل كامل أو بالاستعاضة عن مادته بأشياء أخرى، أو تضعه في صفحة داخلية لا تلفت النظر وكأنها تحاول أن تخفيه. وحين تضعه في الصفحة الأخيرة وتلتزم التقاليد الصحافية، كما تفعل جريدة "البعث"، فإنها تحاول قدر الإمكان الحط من قيمة مضمونه، بتقديم رسوم من المستوى الذي يحوم حول المشكلة ولا يتحدث عنها، أو تلجأ لتعقيد عملية الفهم ذاتها، فيوارب الرسام في إرسال الإشارات وكأنه يتقصد أن يخفف من المشكلة المطروحة.



على سبيل المثال، تختصر صحيفة "تشرين"، الكاريكاتير، في رسم أقرب إلى نشرات توضيحية لمقالات الجريدة، ودائماً ما يهرب الكاريكاتير إلى مناطق بعيدة من كشف ممارسات النظام، ويستعير كليشيهات هجاء جاهزة بطريقة مسطحة تعيد إنتاج أفكار النظام فقط.



والحال أن صحيفة "الوطن" التي يمتلكها رجال أعمال مقربون من النظام، تفاخر بعبارة "صحيفة مستقلة" في رأس صفحتها الأولى، لتميز نفسها عن الصحف الرسمية الأبدية، فتقدم مضموناً كاريكاتورياً تعتبره مختلفاً، وتتخصص في الهموم اليومية وكأنها تحملها على كاهلها. وتعرض "الوطن" كاريكاتيرها بصورة منتظمة وأكثر احترافية، وتجند لهذه المهمة رساماً له خبرة طويلة في العمل الحكومي، وهو يؤدي واجبه بإخلاص من ناحية دقة الرسم والعناية بالمخرجات اللونية، لكن مواضيعه ليست سوى نسخ مكررة لا تتجاوز السقف الدرامي الذي حدده النظام. أما الجهد الرئيسي في رسم كاريكاتير "الوطن" فموجّه لإتقان الرسم والتوزيعات اللونية واللعب بالظلال لتظهر اللوحات وكأنها صُور.

قبل فترة وجيزة، نشرت "الوطن" رسماً لشخص يحمل أسطوانة غاز ويجر خاروفاً سميناً ويقول له: "وانت كمان ما لحقك دور!" وكتوضيح للمعنى، كتب الرسام في أعلى اللوحة: "قريباً.. توزيع الأعلاف بالبطاقة التموينية". ولا يثير مثل هذا الكاريكاتير إلا الغيظ من الجريدة والرسام الذي هرب من كوارث الوطن الكبرى، واهتمّ بخروف بَدين يخشى أن يتم توزيع علفه بالبطاقات، وجميع من في سوريا يعرف أن كل الثروة الحيوانية لا تأكل إلا ما تيسر لها هنا وهناك.

وتحيل السياسة العامة لصحافة النظام إلى حقيقة أن الصحف الرسمية وشبه الرسمية، تخاف هذا الفن القادر على إيصال حمولات رمزية كثيفة وعميقة، ما يقودها إلى تحاشيه وإقصائه والسخرية منه، وحتى إلغائه أحياناً. وهكذا، أصبح الكاريكاتير بدائياً وبليداً ومفتقراً إلى الذكاء القادر على اصطياد التفاصيل الخفية وقلبها إلى طرائف خفيفة أو وخزات منعشة. وليست الأوامر الصارمة هي السبب الوحيد. فرسام الكاريكاتير الحاذق لطالما كان قادراً على التورية، وتمكَّن من خداع الرقيب ورئيس التحرير ليمرَّر ما يريد، وقد أحرز البعض في السابق اختراقات مهمة في هذا الإطار.

على سبيل المثال، قدم الفنان علي فرزات، الذي كان رسام الكاريكاتير الرسمي لصحيفة "الثورة"، أمثلة مهمة على مراوغة الرقابة.. وإن قيل إن فرزات تمتع، لفترة، بسقف أعلى من غيره، وهو الذي سُمح له، في بداية عهد بشار الأسد، بافتتاح جريدة "الدومري" الساخرة، ثم لم يحتملها النظام، فأقفلت بعد نحو عامين على صدورها.

ونشرت "الثورة"، بتاريخ الرابع من نيسان/أبريل 1979، كاريكاتيراً من صورتين. في الأولى، يظهر سجان بعصا ثقيلة سوداء، وسجين ينزف من فمه، وفي الصورة الثانية السجين نفسه مضمّد الفم، واليد الثقيلة للسجان ذاته، ترسم ابتسامة فوق الضمادات. والرسائل التي يتضمنها هذا الرسم واضحة ومباشرة، وهي منشورة في صحف النظام في فترة من فتراته الذهبية، ولا يشير ذلك إلى ديموقراطية حقيقية كان يتحلى بها النظام بالطبع، بل يشير إلى انحدار مستمر في مجال الحريات العامة وفي وجود المبدعين أيضاً.