"إرهاب السوشال ميديا" يتحكّم بمصائر سياسيين فرنسيين

حسن مراد
الأحد   2020/02/16
تسريب جنسي يطيح بمرشح ماكرون لرئاسة بلدية باريس


منذ يوم الجمعة، يعيش الوسط السياسي الفرنسي تحت وقع صدمة انسحاب بنجامان غريفو، المرشح المدعوم من الرئيس ايمانويل ماكرون، من السباق الانتخابي لرئاسة بلدية باريس. صدمة لم يولدها فعل الانسحاب، بل السبب الذي دفعه لتلك الخطوة: انتشار فيديوهات جنسية نُسِبت إليه.

في مطلع الشهر الحالي، نشر موقع إلكتروني يديره بيوتر بافليتسكي، لاجئ سياسي روسي في فرنسا، فيديوهات ذات محتوى جنسي أرسلها غريفو "لإحداهن" إلى جانب محادثات حميمة جمعتهما. لم تعرف تلك الفيديوهات أي انتشار يذكر طوال 12 يوماً، حتى تبدلت الأمور يوم الأربعاء بعد قيام أحد النواب المنشقين عن حزب "الجمهورية إلى الأمام" بنشر تغريدة "ملغومة" ادعى فيها الحرص على غريفو عبر تنبيهه. 

لكن تغريدته عملياً كانت العامل المباشر لانتشار الفيديوهات خصوصاً وأنه أحال متابعيه إلى موقع بافليتسكي. وعرف الانتشار مداه يوم الخميس ما دفع بغريفو الى إعلان عزوفه عن ترؤس اللائحة والانسحاب من السباق يوم الجمعة صباحاً. 

لم تتوقف الصحافة والإعلام عند الانعكاسات المحتملة لهذا الانسحاب على مسار العملية الانتخابية، ربما لأن غريفو لم يكن من المنافسين الجديين على منصب عمدة العاصمة، فحملته لم تعرف الزخم المطلوب وكانت استطلاعات الرأي تتوقع حلول لائحته في المركز الثالث. 
في الواقع، المسألة التي أثارت قلق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ولأجلها دقت ناقوس الخطر هو تنامي نفوذ وسائل التواصل الاجتماعي. 

فإذا ما أخذنا القضية من زاوية قانونية نجد أن غريفو لم يرتكب أي خرق للقانون، فالخيانة الزوجية ليست جرماً خاصة وأن المُراسلة جرت بين راشدين اثنين وبدون إكراه. غير أن الأمور لم تسلك هذا المسار القانوني، فأقل من 48 ساعة كانت كافية للإطاحة بحملة غريفو ودعايته الانتخابية التي بنيت على مدى أشهر وبالوسائل الإعلامية المعهودة.  

تغطية الإعلام والصحافة دلت بوضوح على حجم القلق، لا بل الرعب، الذي اجتاح السلطة الرابعة في فرنسا. بنظرها، هناك خشية من زحزحة وسائل الدعاية التقليدية عن عرشها. وإذا ما استُتبّ هذا الواقع، بات كل سياسي وسياسية عرضةً للتشهير لأبسط الهفوات وما يعنيه ذلك من "تهديد لاستقرار الحياة الديمقراطية". 

فالصحافي آلان دوهاميل اعتبر، من على شاشة BFMTV، أن السوشال ميديا تحولت إلى "مدعٍ عامٍ رقمي". من جهتها وصفت مسؤولة القسم السياسي في محطة France2، ناتالي سان-كريك، ما جرى بـ "إرهاب السوشال ميديا".  

وعليه، صدرت مواقف تضمنت عتاباً لغريفو، إذ اعتبر اصحابها أنه كان عليه التفكير أبعد من حماية عائلته الصغيرة والحزبية، فانسحابه يشرعن مثل هذه الممارسات لا بل يحفزها نظراً لإمكانية بلوغ الهدف المرجو منها. لكن على المستوى الإعلامي، لم يكن ممكناً لغريفو الاستمرار في حملته بعدما سوّق طوال أشهر على أنه ربٌ لأسرة متماسكة.

من جانب آخر، يمكن تفسير انحناء غريفو للعاصفة بعامل آخر ألا وهو إدراكه أن سرعة انتشار الفيديوهات بين الفرنسيين يحمل في طياته مزاجاً شعبياً يعتبر أداء السياسيين والسياسيات دون مستوى المسؤولية المطلوبة منهم. بالتالي، لن يغفروا له هذه الهفوة مهما بلغ عدد "العقلاء" من صحافيين وسياسيين ومنافسين انتخابيين، لم يتوانوا عن استنكار هذا المستوى المتدني من الدعاية السياسية.  

اللافت في هذه القضية أن الفاعل لم يسعَ إلى إخفاء هويته، حيث بادر بيوتر بافليتسكي للاتصال بصحيفة "ليبراسيون" لتبني للأمر، مبرراً فعلته بأنه لم يجد في بنجامان غريفو ذاك الرجل الصادق بل رأى فيه شخصاً كاذباً يتصرف عكس ادعاءاته. وأضاف بافليتسكي أنه وجد نفسه معنياً بإماطة اللثام عما بحوزته لكونه من سكان باريس، فهو من المعنيين بنتيجة الانتخابات المقبلة. ولم يكتف بافليتسكي بتصريحه هذا، بل اتصل بمحطتي BFM و LCI للقول أن ما جرى لغريفو ليس إلا "أول الغيث" متوعدا باقي السياسيين.  

من جهتهم، كشف القيمون على موقع ميديا بارت الاستقصائي أن غريفو تواصل معهم يوم الثلاثاء لوضع الفيديوهات بتصرفهم ونشرها إلا أنهم رفضوا عرضه انطلاقا من امتناعهم المبدئي عن انتهاك خصوصيات الأفراد.

هي ليست المرة الأولى التي يحتل فيها بيوتر بافليتسكي صدارة المشهد الاعلامي إذ لم يتوانَ في السنوات الماضية عن التعبير عن معارضته لنظام بوتين بأساليب فظة وصلت إلى حد إيذاء النفس: من خياطة فمه إلى مسمرة وعاء خصيته في الساحة الحمراء ومحاولة إحراق مقر جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.  ولم ينحسر "نشاطه" حتى بعد استقراره في فرنسا، فأقدم عام 2017 على إحراق واجهة المصرف المركزي الفرنسي في تعبيرٍ عن معارضته لسلطة المصارف وعالم المال. 

سيرة بافليتسكي هذه لم تشفِ غليل الصحافة والإعلام، فتم افتراض وجود دوافع وخلفيات وارتباطات مجهولة لدى الرجل. افتراض سيتحول معه بافليتسكي إلى ملف استقصائي يتسابق عليه رجال ونساء السلطة الرابعة خاصة وأن بعض المحللين أبدوا خشيتهم من إمكانية استخدامه لهذه الوثائق في بازار الابتزاز السياسي.  

هذه الأساليب ليست بالغريبة عن الثقافة السياسية الروسية ولا داعي للتذكير أن فلاديمير بوتين، إبان ترؤسه جهاز الأمن الفيدرالي أواخر التسعينات، تسبب باستقالة المدعي العام الروسي من منصبه بعد نشر فيديو يظهره مع مومستين. استقالة أدت إلى وقف تحقيق قضائي كان يستهدف مقربين من بوريس يلتسين بتهم فساد.  

في هذا المناخ المتميز بسرعة انتشار الخبر المرئي يبدو أنه لم يعد هناك حدود ولا ضوابط للمثالية لا سيما وأن وسائل الإعلام والدعاية التقليدية باتت تتآكل لصالح العالم الافتراضي. 

فالجدل الذي عرفته فرنسا سببه نشر فيديوهات فارغة من أي مضمون قضائي، ورغم ضحالتها دفعت هذه الفيديوهات بصاحبها للانسحاب من السباق الانتخابي مع احتمال القضاء على مستقبله السياسي. بمعنى آخر، تحمّل غريفو ما لم يكن يفترض به تحمله لو ظلت القضية بين يدي السلطة الرابعة.