أكاذيب ‫سلاف فواخرجي

وليد بركسية
الأربعاء   2020/11/25
لا طائل ربما من مناقشة أخلاقية موقف الممثلة السورية سلاف فواخرجي من الأزمة المستمرة في سوريا منذ عشر سنوات، بعد الإطلالة الإعلامية الأخيرة لها في برنامج "جعفر توك" الذي يقدمه الإعلامي اللبناني جعفر عبد الكريم على شاشة "دويتشه فيلله" الألمانية، خصوصاً أن الممثلة البالغة من العمر 43 عاماً، لم تتوقف طوال السنوات الماضية عن تصدير موقفها السياسي الداعم للنظام السوري المتسبب بواحدة من أكبر المآسي الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل.


ولعل السؤال الذي يطرح نفسه، يتمحور حول أخلاقية استضافة فواخرجي في برنامج تلفزيوني في قناة دولية واسعة الانتشار، وإعطائها منبراً كي تقدم من خلاله أفكاراً سامّة مغلفة بكلمات منمقة تجمّل من خلالها صورة النظام الدموي للرئيس بشار الأسد وتضع كل ما يجري في البلاد، قبل العام 2011 وبعده، من تجاوزات وجرائم ضد الإنسانية، في أغلاط التجاوزات الفردية والفساد والمشاكل التي يمكن أن تحدث في أي بلد كان، معتبرة كل خطاب الكراهية التي قدمته في نحو ساعة ونصف الساعة، بأنه حقها في التعبير عن رأيها الشخصي.

ولا يمكن بأي حال من الأحوال "تفهم" القتل والجرائم ضد الإنسانية التي يرتبكها نظام الأسد بحق المدنيين في البلاد، على أنه مجرد "وجهة نظر"، وكأن ما تتحدث به فواخرجي، وغيرها من الفنانين الموالين للسلطة والعاملين في أروقتها، يدور حول اختيار لون فستان لسهرة المساء، أو نوعية البسكويت المقدم مع الشاي للضيوف، أو الحوار الأنسب لمسلسل تلفزيوني رديء لا يتابعه أحد في رمضان، وليس أرواحاً تزهق وبيوتاً تهدم وخوفاً يلاحق الناجين وحيوات تدمر كلياً.


وكان لافتاً اعتراف فواخرجي بوجود التعذيب والقتل العشوائي والإجرام الممنهج في البلاد، لكنها اعتبرت كل ذلك، إما تجاوزات فردية أو ممارسات طبيعية تحصل من كافة الأطراف ضمن سياق الحرب، مع إصرارها على فكرتين. الأولى، أن الثورة السورية كانت نشاطاً استولت عليه حركة الأخوان المسلمين كجهد منظم في كافة الدول العربية التي شهدت حركات الربيع العربي، والثانية أن السوريين في الداخل السوري عانوا أكثر مما عانى بقية السوريين لكن الإعلام الغربي والمنظمات الحقوقية الدولية لم تنقل تلك "الحقائق" في إشارة إلى "تواطؤ وكذب" التقارير الدولية التي تتهم نظام الأسد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في البلاد.

ويجب القول هنا أن ما تفوهت به فواخرجي مردود عليها، لأن الإعلام الغربي القائم على فكرة نقل الوقائع، بعكس الإعلام السوري الخشبي الموجه من قبل القيادة السياسية "الحكيمة"، كان ينقل كل ما يحدث في البلاد من كافة الجوانب، وكذلك التقارير الدولية الآتية من منظمات حقوق الإنسان مثل "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية "أمنستي". وحتى تقارير المنظمات المحلية مثل "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" تذكر التجاوزات التي ترتكب من قبل فصائل معارضة بحق مدنيين موالين للنظام، لأن الإنسانية لا تتجزأ ولأن العمل الذي تقوم به كافة المنظمات السابقة، عموماً، يميل إلى أرشفة الحقائق والوقائع، لا أكثر، إلا أن حجم الانتهاكات التي قام بها النظام السوري يبقى الأكبر حيث يبقى النظام مسؤولاً عن مقتل 88% من إجمالي عدد الضحايا المدنيين في البلاد البالغ عددهم 226779 بحسب إحصائيات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".

وبالطبع فإن ما قامت به فواخرجي ليس عفوياً، بل هو فعل ممنهج. ويعني ذلك أنها كانت تدرك مسبقاً أنها ستحاصر بالأسئلة السياسية المحرجة، وكانت متحضرة على الأغلب بهذه الإجابات الخشبية التي يمكن سماعها بشكل يومي على الشاشات السورية الرسمي وفي خطابات المسؤولين السوريين المختلفة بما في ذلك بشار الأسد شخصياً. والتي يتم فيها الاعتراف بوجود تقصير ما أو مشاكل ما هنا أو هناك، بسبب الظروف الأمنية الصعبة على الأرض، ما يفرغ القصص الإنسانية من مضمونها ويحول كل ما جرى في البلاد إلى قضاء وقدر يجب تجاوزه من أجل بناء مستقبل أفضل، ضمن الواقع السياسي الذي يكون فيه نظام الأسد رابحاً للحرب السورية، ميدانياً، بفضل التدخل العسكري الروسي العام 2015.

يتضافر ذلك مع فكرة مسمومة مفادها أن الوطن أكبر من الأفراد، سواء كانوا موالين أو معارضين، وبأن "بقاء" البلد أهم من مشاعر أفراده وجروحهم وحياتهم برمتها. وكررت فواخرجي ذلك في كل مرة حاصرتها الأسئلة المحرجة والتقارير الدولية والشهادات المؤلمة التي عرضها عبد الكريم عليها ببراعة لإظهار مدى الإجرام الذي مارسه نظام الأسد بحق شعبه. على أن تلك المقولة ساقطة أخلاقياً لأن الوطن الذي يبيح تعذيب الأفراد وقتلهم وتخويفهم وترهيبهم وسرقتهم بشكل ممنهج من قبل السلطة الحاكمة لا يستحق الحب ولا الاحترام ولا يستحق بكل تأكيد البقاء من أساسه، وهو ما أدركه السوريون قبل عشر سنوات عندما طالبوا بتغيير النظام، لا إصلاحه، لأن إصلاح النظام، كما بات واضحاً، فكرة رومانسية ومستحيلة مازال الموالون للنظام يؤمنون بها،  بشيء من القصور أو الإنكار لاعتبارات مختلفة، اقتصادية واجتماعية وأمنية.

ولا يعتبر ذلك لدى فواخرجي انحيازاً سياسياً ولا تورطاً عاطفياً بل "موقفاً وطنياً" حسب تعبيرها، لكن ذلك الموقف يبقى مليئاً بالنفاق، لأنه يروج لكذبة مفادها أن النظام السوري علماني، حتى لو كان قانون الأحوال الشخصية ودستور البلاد مستمدين من الفقه الإسلامي مباشرة، وضامنٌ للحريات، حتى لو كان النظام منذ سبعينيات القرن الماضي هو المتسبب الأول في تحويل البلاد إلى دولة بوليسية قمعية تزج الآلاف في معتقلات سيئة السمعة بسبب ومن دون سبب، ويشكل صماماً للأمان السياسي والاقتصادي، ولو كان الفساد مكوناً أساسياً من الحمض النووي للنظام نفسه طوال عقود.

وبسبب ذلك النفاق الذي يتفاقم عند وصف السوريين اللاجئين في أوروبا بأنهم إسلاميون متعصبون، بالإشارة إلى أنهم أصحاب التعليقات الرافضة لمشهد قبلة فواخرجي في مسلسلها الأخير "شارع شيكاغو" بعكس سوريي الداخل المتنورين والبعيدين من التعصب الديني، يأتي الشعور الحتمي بالازدراء، لأن السياق الذي تتبناه فواخرجي يكرره إعلام نظام الأسد ودبلوماسيوه منذ سنوات، ويزعم أن هناك "سوريتين"، الأولى هي سوريا النور التي يمثلها النظام المدني المتحضر، والثانية هي سوريا الظلام.

ونشأت هذه السردية كبديل لمصطلح "سوريا المفيدة" الذي تم تداوله قبل سنوات. وضمن هذا التقسيم السام والكاذب، تتصارع هويتان: الأولى مدنية موالية، والثانية جهادية معارضة، لكن الثورة السورية قدمت نماذج كثيرة نسفت تلك النظرية من جذورها، من ورود التظاهرات الأولى في داريا، وليس انتهاء ببلدة كفرنبل التي مازالت حتى اليوم تشكل الجوهر المدني للثورة السورية التي طالبت بالديموقراطية والحريات العامة. ويحاول أصحاب هذه النظرية حرف الأنظار عن الحقيقة التي لا يمكن حجبها، بأن هناك سوريتين اثنتين: سوريا الأسد بوصفها دولة بوليسية مجرمة ومخيفة، وسوريا الوطن أو سوريا الحلم التي ثار السوريون من أجلها العام 2011، وواجههم النظام بالرصاص الحي وسياسة الأرض المحروقة وخطاب التخوين.