لا تلاقي لأبناء بيروت

سمير سكيني
الثلاثاء   2019/08/27
حرش بيروت مقنن وتقضمه التقسيمات (علي علوش)
أنتم مدعوّون جميعاً لزيارة المساحات العامة في بيروت، مستعينين بالمخيّلة أقصد. وقد يكون حرش بيروت المكان الأوّل الّذي يخطر في بالنا. والآن فلنتفقّد الدوام: من السابعة صباحاً حتّى الواحدة ظهراً. 

أجيب عن نفسي على الأقل، كطالب جامعيّ، لن أتمكّن يوماً من زيارة الحرش. ناهيك عن التعدّيات التي لا تعد ولا تحصى وسياسات القضم المعتمدة من بعض الجهات السياسية المعروفة (إنشاء المستشفى الميدانيّ، مبنى كشّافة الرسالة، مبنى آخر للأمن العام)، وصولاً إلى فصل الحرش إلى شطرَين بشريطٍ حديديّ (مع الإشارة إلى أن القسم الأوّل يطلّ على منطقة ذات "طبيعة ديموغرافية واجتماعية" مختلفة عن الثانية، فهل هذا السبب؟). وهذا يعني تحجيم الحرش وعزله عن المدينة رويداً رويداً، خصوصاً أنّه محاط بأوتوستراداتٍ من جهاته الثلاث؟

قد نفكّر أيضاً بالكورنيش، حسناً، اختيار جيّد. لكن لا تنسوا التعديّات: إغلاق الدالية بالقوّة (قبل فتحها و"تحريرها" بالقوّة أيضاً)، جرّ مياه الصرف الصحي على شاطئ الرملة البيضاء وتلويثه، المنتجعات والفنادق على طول الخط الساحلي، وصولاً إلى احتلال الشاطئ العام والبناء على الرمال، الخ الخ. 

ماذا بعد؟ قد تكون المساحة العامة "الطبيعية" الأخيرة في بيروت هي حديقة الصنائع – والتي صارت، بالمناسبة، كونها تحديداً آخر بقعة خضراء مجّانية ومجهّزة في العاصمة، شديدة الاكتظاظ يومياً، إذ نادراً ما تذهب وتجد مقعداً شاغراً. إذاً، ما من شيءٍ سويٍّ في هذا الشقّ.

لكنّنا على أي حال، بعبارة "مساحة عامة" لا نقصد الساحات أو الحدائق حصراً. فلنمضي قدماً في البحث. نقصد هنا كل مكان قد يحصل فيه تلاقٍ وتبادل للأفكار. وعليه، لتوضيح مقصدنا، قد نستعين بالترامواي مثالاً. فحافلات الترامواي كانت بمثابة مساحة لتلاقي الأفراد يومياً، من مختلف الطبقات والمذاهب والعائلات. إضافةً إلى أن خطّ الترامواي، شكّل ذات يوم، أساساً لتوسّع المدينة وتأسيس الحيّز العام فيها. كما شكّل تشغيله المناسبة الأولى لتأسيس المبادئ والمسلكيّات المدنيّة. 

فارتياد الحيّز العام والترامواي يخضع لقواعد عامّة ناظمة، تضبط الناس وأنشطتهم وفق مواقيت محدّدة (أزمنة)، ومحطّات جغرافيّة محدّدة (أمكنة) فضلاً عن مسلكيّات عامّة موحّدة، وبهذا كان الترامواي ناظم المدينة وشريانها الحيوي وبشير التحديث فيها.

لطالما سمعنا قصصاً عنه من أهلنا، كيف كانوا يحاولون التهرّب من الجابي، كيف كان العمّال يجلسون في الخلف مع رفوشهم وأدواتهم الخارجة من النوافذ، كيف كان الكل يحكي الكل على متنه. لكن بالتأكيد، لم يصمد التراموي أمام سياسات الدولة، وكان إلغاؤه بمثابة إلغاء حيّز عام آخر وأساسيّ لتبادل الأفكار. 

بقراءة سريعة لتطوّر وسائل النقل في لبنان منذ ذلك الوقت حتى اليوم: الترامواي، ثم باصات "جحش الدولة"، ثم الميني باص، ثم السرفيس، ثم اليوم تاكسي "أوبر" (وهو أشبه بالسرفيس لكن لراكب واحد). نلاحظ إذاً أنّ مساحة وسائل النقل المشترك تتقلّص تدريجياً مع مرور الزمن، وهذا يعني أن عدد الأفراد الذي يمكن أن تحتويه كل وسيلة نقل، ينخفض تدريجياً، حتى تحوّلت بشكلها النهائي، من نقلٍ جماعي مختلط، إلى نقلٍ فردي وخاص. وبذلك حُيّدَت وسائل النقل عن خريطة المساحات العامة التي تخلق تلقائيّاً حيّزاً عاماً لتبادل الأفكار وتشكيل الآراء.

وبعد.. المزيد من خطوات إلغاء المساحات العامة. أسواق بيروت – ولو أنها ما زالت موجودة، نسبياً، لكنّ بشكلٍ مشوّه. فالإلغاء هنا لم يحصل عبر الهدم أو الوقف عن العمل كما حال الترامواي، بل حصل بشيءٍ من الحذلقة الطبقية: فقد حُوّل السوق الشعبي، الذي كان بمثابة مساحة تبادل سلع وآراء، إلى منطقة "مُبَرجَزة"، لا تناسب سوى فئة واحدة من المجتمع، ولا تجد أي من الطبقات الأخرى هدفاً أو منفعةً في ارتيادها. وبذلك تصبح "Beirut Souks" مدينة أشباح كرمى لعيون الاستثمارات، بعدما كانت الأسواق في الماضي من أكثر الأماكن حيويةً واكتظاظاً في بيروت.

المساحات العامة هي، باختصار، عبارة عن أي مساحة تسمح بتلاقي عدد من الأفراد، فيشكّلون بذلك جماعة، وينتقلون من مناقشة أفكارهم الفردية إلى صناعة آراءٍ مشتركة تعنى بأمورٍ أوسع من وحدة الفرد. بذلك، تساهم هذه المساحات بشكلٍ من الأشكال بخلق ثقافة عامة وجامعة.
واليوم مساحة عامة أخرى مهددة بالفناء، حديقة المفتي حسن خالد، الشهيرة باسم "جنينة التلفزيون". ذاكرتها قد تفنى، وكذلك وظيفتها المفترض أن تستمر كمكان للعب الأطفال، وتلاقي العائلات، واجتماع أبناء الحي. 

كأن كل الخطوات نحو تقليص المساحات العامة في لبنان ليست من باب العبث أو الفشل في التخطيط المُدني، بل خطّة ممنهجة من السلطة للحد من هذا التلاقي، أو لملاحقة أطماع صغيرة، أو هي "حلول" بائسة لمشاكل ازدحام السير وقلة مواقف السيارات. وبالتالي، تُعاق عملية تشكيل رأي عام مشترك في المجتمع، ويُدفع الأفراد إلى الإنعزال والتقوقع في كانتوناتهم الطائفية أكثر فأكثر عوضاً عن الاختلاط. وهنا لب المسألة، أنبلغ الرأي المشترك إن كانت تفرّقنا المساحات؟