نهاية حقبة.. "ماستر شيف أستراليا" يفقد حكامه

وليد بركسية
الأربعاء   2019/07/24
لا يمكن تخيل كيف سيكون شكل البرنامج من دون الحكام الثلاثة
طوال 11 موسماً، لم يكن "ماستر شيف أستراليا" مجرد برنامج آخر من برامج تلفزيون الواقع الكثيرة والمكرورة، بل حمل قيماً ثقافية معاصرة، جعلته يصبح الأبرز عالمياً في فئة برامج مسابقات المطبخ. وفيما يستعد البرنامج الذي تنتجه "شبكة تن" (Ten Network) الأسترالية، لموسم جديد، صدم الجمهور بإعلان التخلي عن حكامه الثلاثة، مات بريستون وغاري ميهغان وجورج كالومبارس، الذين باتوا علامة مسجلة للبرنامج. إنها نهاية حقبة فعلاً.


ورغم أن "ماستر شيف" نفسه انطلق من بريطانيا وانتشرت نسخ منه حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلا أن النسخة الأسترالية كانت الأبرز عالمياً، وطوال 11 موسماً حافظ البرنامج على نسب مشاهدة مرتفعة ومتزايدة، وهو أمر نادر الحدوث في برامج تلفزيون الواقع التي تبدأ عادة بزخم ثم تفقد شعبيتها تدريجياً. ويدل على ذلك أن البرنامج طوال مواسمه الماضية لم يخرج من قائمة "Top 10" للبرامج الأكثر مشاهدة في أستراليا، بالإضافة لبثه في 35 دولة على الأقل.

ويعود ذلك النجاح بشكل أساسي لشخصية الحكام الثلاثة الذين صنعوا نكهة للبرنامج لا تقوم على الصراع والمنافسة بين المشتركين بل على قيمة الاهتمام الإنساني والتحدي الذاتي، وهو أمر يمكن تلمسه بالمقارنة مع برامج مشابهة مثل "هيلز كيتشن" (Hell's Kitchen) الذي يقول متابعوه أنه يحتوى تحديات أصعب بكثير من "ماستر شيف"، علماً أن الحكام أنفسهم يعكسون التنوع الثقافي للبرنامج. فبريتسون هو صحافي وناقد طعام مرموق، ينحدر من أصول بريطانية، ورغم إحساسه العالي بالأناقة وصرامته إلا أنه يقدم جرعة من الاحترام والفكاهة في آن واحد. أما ميهغان وكالومبارس، فهما طباخان مشهوران يمتلكان سلسلة مطاعم رفيعة المستوى، وينحدر الثاني من أصول يونانية وتجمعهما صداقة قديمة تنعكس في البرنامج بإضفاء طابع شخصي على الكثير من مداخلاتهما.



هذه الصداقة التي تجمع الحكام الثلاثة هي القيمة التي يحاولون تمريرها إلى المشتركين، في كل موسم، بتأكيدهم أن المشتركين ليسوا أعداء رغم تنافسهم على جوائز قيّمة، لأن الجائزة رغم أهميتها يجب لا تشكل الهدف النهائي للمشتركين بقدر الرحلة نفسها. وضمن هذه الرحلة يستبدل الصراع بالعطف والعداء بمشاركة الخبرات والتوتر بقضاء وقت ممتع، وبدلاً من تحدي المتسابقين لبعضهم البعض يصبح التحدي ذاتياً والعدو الذي يجب هزيمته هو المشاعر السلبية والطبق الصعب الذي يشكل التحدي المعين.

والحال أنه لا يمكن تخيل كيف سيكون شكل البرنامج من دون الحكام الثلاثة، وتطرح وسائل الإعلام أسماء بعض المرشحين ممن كانوا مجرد ضيوف بارزين خلال المواسم الـ11 الماضية، مثل ماغي بيرس وكيرتس ستون، والذين يمثلون روح البرنامج القائمة على التعددية الثقافية وإظهار معنى الحياة الأسترالية المعاصرة، بعيداً عن التمييز العرقي والإثني والديني وغيرها. لكن الالتزام بهذه الخلطة من دون تجديد، مهما كان ذلك ضرورياً ومهماً، سيعطي انطباعاً بأن اللجنة الجديدة تحاول تقليد الحكام الأيقونيين للبرنامج، لا أكثر، بالإضافة لامتلاك هذه الأسماء مسيرة عمل تلفزيونية موازية ما يفقدهم الخصوصية اللازمة لبرنامج من هذا النمط.

وتستند فلسفة البرنامج إلى طرح تساؤلات حول قيم جدلية تتغير بشكل متسارع على الكوكب ضمن فلسفات وأحداث القرن الحادي والعشرين: ما هي الهوية؟ وما هو الوطن؟ وهل يحق لنا الحكم على الآخرين لمجرد أنهم ولدوا في مكان مختلف أو قدموا إلى "الدولة" من دول أخرى؟ وهل نحن نشبه بعضنا البعض فعلاً لمجرد إنسانيتنا مهما كانت انتماءاتنا الفكرية والعرقية أم نحن مختلفون بشكل جذري إلى حد لا يمكننا معه العيش جنباً إلى جنب، كما يرى النازيون الجدد أو المهاجرون الرافضون لفكرة الاندماج؟

وإن كانت هذه الأسئلة في خلفية البرنامج وليست في صدارته بشكل فج، فإن شعبية البرنامج نفسه قد تشكل إجابة متفائلة تميل للجانب الأول، علماً أن تلك النقاشات مازالت في سياق التشكل، والتمهيد لعالم جديد يخلق الآن، ليس بفعل تيارات الهجرة التي تخلق صراعات في الهوية، أو فلسفة صراع الحضارات التي تحدث عنها صامويل هنتنغتون منذ تسعينيات القرن الماضي فقط، بل بسبب قوة التكنولوجيا في خلق عوالم وهويات بديلة، وتقريبها للمسافات الجغرافية بطريقة تسلب الدول القومية السياسية نقطة قوتها في احتكار مفهوم الهوية القومية على أساس الارتباط بالمكان والجغرافيا. وفي حالة البرنامج يستخدم الطبخ، كعنصر مشترك وبسيط بين جميع البشر، لتقريب المسافات بين الشعوب.

وفي الواقع، تساهم الحكومة الأسترالية في رعاية البرنامج، بشكل محدود، بعقد اتفاقيات موسمية من أجل الترويج لمناطق محددة في أستراليا، سياحياً، كما ظهر عدد من الوزراء وأعضاء الحكومة في حلقات البرنامج باعتباره أداة مهمة لتحقيق الاندماج في دولة هجينة يشكل فيها المهاجرون واللاجئون نسبة كبيرة من عدد السكان. وينظر للطبخ هناك على أنه أداة للتعريف بالثقافات "الأجنبية" من أجل أنسنة الغريب، وتحقيق التقارب وتسريع الاندماج، لأن أي أسترالي حتى لو كان مسلمة محجبة آتية من الشرق الأوسط أو مهاجراً فقيراً وصل عبر زورق من دول جنوب شرق آسيا، أو رجلاً أبيض يعود نسله إلى المجرمين الذين تم نفيهم من أوروبا قبل قرون، هم في النهاية بشر يتقاسمون الحاجات الأساسية نفسها، ولا ينبغي الخوف منهم أو نبذهم.

ولتحقيق هذه المعادلة تلفزيونياً، تركز حلقات البرنامج على تحديات مختلفة، وفيها يتم سرد قصص المشتركين وحياتهم وماضيهم وتصوراتهم عن المستقبل. بالإضافة للقيام بتحديات تستهدف التعريف بثقافات أخرى، عطفاً على تراث المشتركين في كل موسم، بتخصيص أسبوع للسفر إلى مكان ما حول العالم، كاليابان أو الولايات المتحدة أو الإمارات، وغيرها لعكس ثقافة إنسانية أشمل، بالإضافة لاستضافة طباخين نجوم من خلفيات متعددة، لأداء نفس المهمة في استوديوهات البرنامج في مدينة ميلبورن الأسترالية (المواسم الأربعة الأولى صورت في مدينة سيدني).

نهاية حقبة الحكام الثلاثة في البرنامج، تزامنت مع "فضائح" مالية خاصة بالأجور في سلسلة المطاعم التي يمتلكها كالومبارس، وقالت وسائل إعلام أنها السبب في إنهاء التعاقد مع الحكام الثلاثة دفعة واحدة، فيما تحدثت وسائل إعلام أخرى عن خلافات مالية حالت دون توقيع عقد جديد بين الشبكة وبينهم، لكن الحكام الثلاثة وجهوا رسائل عاطفية عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، تحدثوا فيها بشكل متماثل إلى رغبتهم في البحث عن تجربة إبداعية جديدة بعيداً عن التكرار. ومهما كان السبب فإن الموسم القادم من البرنامج سيكون محورياً لأن فشله قد يعني انتهاء السلسلة كلياً وسط منافسة من الشبكات التلفزيونية المحلية والعالمية التي باتت تستلهم تجربة "ماستر شيف" لخلق محتوى متعدد الثقافات يناسب ثقافة القرن الحادي والعشرين.