الاستاكوزا التي هزت حكومة ماكرون

حسن مراد
الخميس   2019/07/18
اهتزت صورة ماكرون كثيراً بعد تتالي الضربات السياسية والإعلامية

 

يشيد كل من أحاط بالرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول بحرصه الشديد على الفصل بين نفقاته الشخصية والرسمية. فإذا أعاقه جدول اعماله عن قضاء عطلة نهاية الأسبوع في منزله الخاص، كان يستقبل زواره في قصر الإليزيه مع تسديد تكاليف الدعوة من ماله الخاص قائلاً لمدعويه: "أنتم في ضيافة الجنرال ديغول وليس رئيس الجمهورية". 

هذا الحرص الذي ألزم به ديغول نفسه، لم ينسحب على باقي الساسة الفرنسيين، آخرهم وزير البيئة فرنسوا دو روجي الذي استقال أمس من منصبه على أثر نشر موقع ميديا بارت الاستقصائي عدداً من الملفات تتهمه بتبذير للمال العام.

في 10 تموز الفائت، كشف الموقع أنه بين تشرين الأول 2017 وحزيران 2018 ، أي إبان تولى دو روجي رئاسة الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب)، أقام حفلات عشاء فاخرة ذات طابع خاص تحملتها ميزانية الجمعية الوطنية، معلومات أرفقت بصور للموائد اعتبرت صادمة لناحية البذخ لا سيما وجود الاستاكوزا العملاقة والنبيذ الفاخر.

في اليوم التالي (11 تموز) نشر الموقع نفسه معلومات أخرى أشارت إلى قيام دو روجي بأعمال تجديد لسكنه الرسمي ، بعد توليه وزارة البيئة، وصلت تكلفتها إلى 63000 يورو تكبدتها خزينة الدولة، أي دافعي الضرائب وفقا لما عنونه الموقع. أما القضية الثالثة فتتعلق باستفادة دو روجي من سكن اجتماعي دون وجه حق

بالنظر إلى ما سبق، يتبين أن الموقع لجأ الى استراتيجية "التقطير" في الإفصاح عما يملكه من معلومات كما اختياره توقيتاً غير حافل بالأحداث لتتحول هذه الملفات إلى عنوان أول دون منازع. فمن جهة، تستنزف هذه الاستراتيجية الشخص المستهدف أكثر من الكشف عن الملفات دفعة واحدة، إذ لا يلبث ويرد على قضية ليفاجئ بأخرى. كما تنطوي من جهة أخرى على جانب تسويقي، إذ من شأنها جذب الانتباه للموقع على مدى أيام ما يزيد عدد متابعيه والمشتركين به وتسمح كذلك بإعطاء كل ملف حقه من التغطية الاعلامية.

رد دو روجي كان هجومياً من جهة ومتماسكاً من جهة أخرى، فبالرغم من أن الموائد كانت غير رسمية لكن المدعوين أفراد ذو صلة بعمله الوزاري على حد قوله، معترفا ومتفهما لحجم الصدمة التي شكلها نشر هذه الصور لدى عموم الفرنسيين. فيما يتعلق بسكنه الوزاري أكد دو روجي أن أعمال التجديد تمت بناءً على تقارير هندسية، فطبيعة البناء "المتداعي" فرضت هذا المبلغ. أما بخصوص السكن الاجتماعي، ألقى بالمسؤولية على الوسيط العقاري الذي لم يبلغه بشروط الإقامة في المنزل المذكور. 

وفي الختام أكد دو روجي استعداده سداد أي مبلغ يترتب عليه بعد انتهاء التحقيق الذي أعلن عنه رئيس الوزراء. الصحف الفرنسية اعتبرت هذه الردود منطقية بعض الشيء أو أقله تحتمل التمعن وأخذها على محمل الجد، لدرجة استبعاد خيار استقالة دو روجي أو إقالته بعدما حظي بتضامن رئيسي الجمهورية  والوزراء. أمر أعلنه دو روجي بنفسه كما عنونته صحيفة  Le Monde . حتى أن صحفاً هبت لمؤازرته كالـ  Le JDD  فوصفته بالأكثر تقشفاً بين من سبقه في رئاسة البرلمان والـ LeParisien التي قابلت أحد المدعوين لموائد دو روجي ليؤكد على الطابع المهني للدعوة. 

هذا المناخ السياسي هو ما يفسر المفاجأة التي أحدثتها استقالته، ففي اللحظات الأولى لم يكن مفهوماً سبب إقدامه على هذه الخطوة بعد دفاعه المتماسك ودعم ايمانويل ماكرون و إدوارد فيليب له.

لكن على مبدأ "إذا عرف السبب بطل العجب" كشف موقع ميديا بارت أنه كان بصدد إماطة اللثام عن قضية جديدة ما يحيلنا مجددا إلى استراتيجية "التقطير". 

وفقا للموقع الاستقصائي، استخدم دو روجي مخصصاته النيابية لتسديد اشتراكاته الحزبية عامي 2013 و2014 أي إبان عضويته في حزب الخضر. والمقصود بالمخصصات ليس راتبه المباشر، بل ما يعرف بالـ IRFM أو "بدل التمثيل" وهو مبلغ شهري مخصص لكل نائب وسيناتور فرنسي لتغطية نفقاته التي يفرضها عليه منصبه. المفارقة أن النواب وأعضاء مجلس الشيوخ غير ملزمين بتبرير آلية الصرف كما أن المبلغ لا يخضع لضريبة الدخل.

وفقا لنظام الجمعية الوطنية الداخلي، صُنفت الاشتراكات الحزبية كالتزامات شخصية لا يفرضها المنصب النيابي وعليه يتوجب تسديدها من رواتب النواب مع ملاحظة إمكانية استقطاعها من ضريبة الدخل وفقا للقانون. بحسب ميديا بارت، لم يتوقف الأمر على دفع دو روجي اشتراكاته من "بدل التمثيل" بل قام أيضاً باستقطاعها من ضريبة الدخل أي ادعى بأن المبلغ سدد من راتبه النيابي. بمعنى آخر إذا ما صدقت هذه المعلومات، نكون أمام حالة تهرب ضريبي وهي "خطيئة لا تغتفر" لدى الشارع الفرنسي نظراً لأهمية هذا النوع من الضرائب لتمويل نفقات الدولة كالتعليم والطبابة ورواتب التقاعد.
 

ما كشف عنه الموقع أيضاً هي مراسلتهم لمكتب دو روجي مساء الاثنين بغية إعطائه حق الرد قبل النشر، فاستمهلهم لغاية الثلاثاء ليفاجئوا بخبر الاستقالة . استقالة فسرها البعض بعدم قدرة دو روجي على مجابهة هذا الملف الحساس (بخلاف الملفات السابقة). من جهته، برر دو روجي الأمر بحرصه على عدم إضعاف الحكومة لا سيما وأن الملف البيئي يحتل أولوية خاصة لدى ماكرون كما حاجته للتفرغ للدفاع عن نفسه مؤكداً ملاحقة موقع ميديا بارت قضائيا واصفاً ما جرى بعملية "إعدام إعلامي دون محاكمة".

بغض النظر عن مكان تموضع الحقيقة في كل ما سبق ذكره، أعادت أحداث الأيام الماضية إحياء جدل قديم حول اخلاقية تعاطي الساسة الفرنسيين مع المال العام، فغياب قواعد واضحة تسهل، بشكل قانوني، الخلط بين النفقات العامة والخاصة.  

من جانب آخر بات يسود توجس من النفوذ المتزايد للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فالوزير السابق استقال قبل انتهاء التحقيقات أو صدور حكم قضائي أي أنه حوكم أخلاقياً وليس قضائياً. بمعنى آخر، الطريقة التي تلقف فيها الراي العام والإعلام الفرنسي هذه القضايا أظهر وكأن الصحافة الاستقصائية حلت مكان القضاء. رغم أهمية وفعالية دور الإعلام في هذا المجال، إلا أن الخشية تكمن في تأثيرها على الاستقرار السياسي بالمطلق عقب كل تحقيق استقصائي يتم انجازه، كما عبر عدد من المحللين السياسيين من على شاشات التلفزة.

منذ انتخابه رئيساً، استقال 11 وزيراً من وزراء ماكرون إما لأسباب سياسية أو بسبب قضايا من هذا النوع، يضاف إليها الفضائح التي طالت دائرته الضيقة (قضية بينالا) دون أن ننسى طبعاً السخط الشعبي على سياساته (السترات الصفر).

استفادت الصحف الفرنسية من المناخ السياسي الذي واكب الكشف عن هذه الملفات لاستعادة كل المطبات التي واجهها ماكرون منذ انتخابه رئيساً قبل نحو عامين، فليس خافياً على أحد حرص ماكرون الدائم على صورته الإعلامية كما التحكم في إيقاع اللعبة السياسية ليكون سيد الموقف دائماً. لكن وعلى عكس ما يرغب به، اهتزت صورته كثيراً بعد تتالي الضربات السياسية والإعلامية، فماكرون يعاني مشكلة حقيقية في إعطاء ولايته زخماً فعلياً وحقيقياً ما أفقده القدرة على المبادرة في أكثر من مناسبة، لتأتي ملفات دو روجي وتعزز مجددا انطباع الشارع أنه رئيس الأثرياء.