هجوم نيوزيلندا الإرهابي.. المشكلة ليست في "البث المباشر"

وليد بركسية
الخميس   2019/03/21
عادت أيديولوجيا تفوق العرق الأبيض رغم كفاح البشرية عبر قرون من أجل المساواة العرقية والإثنية (غيتي)
صحيح أن البث المباشر لهجوم نيوزيلندا الإرهابي عبر "فايسبوك" قبل أيام كان مقلقاً ومزعجاً للعين، إلا أنه في الوقت نفسه لم يكن أمراً سلبياً بالمطلق، بل يمكن اعتباره دليلاً صادماً على معنى التطرف والسوداوية التي يمكن أن تحملها النفس البشرية، وتحذيراً من القومية البيضاء التي تدعو لتفوق العرق الأبيض وعادت كأيديولوجيا رغم كل كفاح البشرية عبر قرون من أجل المساواة العرقية والإثنية.


وبعد الهجوم انتشرت عبر وسائل الإعلام الكبرى وعبر مواقع التواصل وفي خطابات السياسيين، نقاشات حول دور مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الإرهاب والكراهية، وفيها يلام "فايسبوك" على تقاعسه في إيقاف البث المباشر، قبل لومه، مع منصات أخرى، في وقف إعادة نشر الفيديو، الذي بات متوافراً في مواقع لا تطاولها الرقابة التقليدية، مثل "إيت تشان" و"فور تشان".

وفيما يمكن تفهم تلك الدعوات نظراً لأن سياسات شركات التكنولوجيا الكبرى تحارب نشر المحتوى الذي يمجد العنف والكراهية من جهة، ولفداحة المشهد وعنفه من جهة ثانية، إلا أن لوم تكنولوجيا البث المباشر أو لوم "فايسبوك" على الجريمة فقط، بمعزل عن أي ظروف أخرى، هو رأي عاطفي يخلو من المنطق. ولا يعني ذلك بأي حال الإبقاء على المقطع والتمتع بمشاهدته كأنه جزء من فيلم سينمائي أو لعبة إلكترونية، بل يعني فقط التعامل مع الحدث بواقعية ومباشرة والاعتراف بوجود مشكلة أيديولوجية يتم التعبير عنها بهذه الدرجة من الصدمة.

وتقول بعض الآراء أن الغرض من البث المباشر هو تحويل الهجوم إلى مصدر إلهام لمزيد من المتطرفين حول العالم للقيام بعمليات مشابهة. لكن الأفضل هو تحويل الفيديو بالاتجاه المعاكس للإضاءة على الأسباب التي تدفع بالأساس أي شخص لقتل 50 شخصاً آخرين بهذه الدرجة من برودة الدم، والتي إن كانت موجودة فإن صاحبها لن ينتظر مشاهدة مقطع فيديو للقيام بجريمة مماثلة.

وجادل بعض الباحثين في علم الاتصال والإعلام، مثل سيفا فايدهاينيثان من جامعة فيرجينيا في الولايات المتحدة، بأن مواقع التواصل مخصصة فقط لنشر صور الأطفال والقطط واللحظات الشخصية السعيدة ويجب بالتالي حجب تقنية البث المباشر باعتبارها غلطة تاريخية، لأنها لم تجلب سوى المشاكل بنشرها اللقطات المؤذية التي تخدش البراءة وتؤذي الشعور، وجعلت الناس والعائلات يشاهدون أسوأ ما قد تقدمه النفس البشرية في منازلهم.

تذكر هذه الآراء بالدعوات الطهرانية في العالم العربي لخلق فن نظيف أو سينما نظيفة، وهي ردة فعل تميل للإنكار والتظاهر بعدم وجود مشكلة في البشر أنفسهم، وليس في التقنية التي يستخدمونها لإيصال تلك المشكلة للعالم. فالتظاهر بعدم وجود مشاكل أعمق، ثقافياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لا يعني عدم وجود تلك المشاكل التي تؤدي للتطرف، سواء كان التطرف إسلامياً أو نازياً جديداً، وبالتالي فإن الحملة السياسية الحالية ضد "فايسبوك" تبدو تهرباً من مسؤوليات لم تخلقها التكنولوجيا بل سلطت عليها الضوء فقط.

وفي حالة التطرف الإسلامي يشير خبراء إلى حلقة مفرغة من المظالم التاريخية التي تتكرر في دول الشرق الأوسط، والقائمة على تهميش طائفي وديني وإثني، مع انهيار اقتصادي ومعيشي يساعد الجماعات المتطرفة على تجنيد عناصر جديدة فيها، ما يدعم دعايتها التي تنتشر عبر الإنترنت وعبر طرق أخرى أيضاً، وبالمثل فإن التطرف الأبيض الجديد يرتبط بعوامل مثل الخوف من الإرهاب الإسلامي وتضخيم وسائل إعلام لخطر المهاجرين بناء على أجندات سياسية وصولاً لمؤشرات البطالة والفقر والديون بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة العام 2008، وتغير نوعية الإنتاج والتوظيف بسبب تغير طبيعة الاقتصاد نحو اقتصاد قائم على المعلومات والتكنولوجيا، ما أدى لازدهار السياسيين الشعبويين الذين غذوا تلك الدائرة المفرغة بدورهم.

ويجب القول أنه لا يمكن ضبط التقنية أو التراجع عنها، من منطلق الحتمية التكنولوجية. واللافت أن البث المباشر نفسه الذي قام به منفذ مجزرة نيوزيلندا برينتون تارانت، لم يحظ سوى بنحو 200 مشاهد لم يقوموا بالإبلاغ عن الفيديو، إلا بعد 12 دقيقة من البث الذي استمر لـ17 دقيقة قتل فيها نحو 50 شخصاً، وكان انتشار الفيديو الكبير بعد ذلك، عندما اختار بعض أولئك الأشخاص تحميل الفيديو وتداوله عبر "فايسبوك" ومنصات أخرى، كما وصل إلى الإعلام التقليدي، لدرجة أن مواقع لصحف بريطانية عرضت صوراً ثابتة التقطت منه عبر مواقعها الإلكترونية، وتقول "فايسبوك" أنها حجبت 1.5 مليون محاولة لإعادة تحميل الفيديو بعد إزالته.

ولا يستطيع "فايسبوك" في الوقت الحالي فرض رقابة على كل مقطع فيديو مباشر يتم بثه كل دقيقة. إذ يحتاج ذلك إلى جهد بشري يقدر بملايين الموظفين، فيما يتم التعامل مع المحتوى المخالفة لسياسة الموقع عبر أسلوب التلبيغات من قبل الأفراد التي يراجعها برنامج للذكاء الاصطناعي قبل تحويلها إلى موظف بشري. ورغم ذلك يستطيع المستخدمون ببساطة إعادة نشر المحتوى المخالف حتى بعد التعرف عليه، ولو لفترة قصيرة، عبر تغيير إعدادات الإضاءة أو سرعة الفيديو مثلاً.

وبحسب منتدى الإنترنت العالمي لمكافحة الإرهاب، وهو مجموعة من شركات الإنترنت العالمية بقيادة "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" و"مايكروسوف"، تم تحديد 800 نسخة مختلفة من فيديو نيوزيلندا تمت إضافتها إلى قاعدة بيانات مشتركة تستخدم لمنع الصور ومقاطع الفيديو الإرهابية العنيفة، ومع ذلك لم تنجح تلك الشركات في وقف انتشار الفيديو إلا بنسبة 99.9% لاستحالة ذلك عملياً.

الحديث عن الرقابة يحيل تلقائياً إلى معنى الرقابة في عصر الإنترنت ومجتمعات المعلومات، فقبل سنوات قليلة كانت وسائل الإعلام التقليدية هي من تتخذ القرارات بشأن ما يجب نشره وما لا يجب نشره، فخلال أي بث مباشر لأي قناة تلفزيونية يمكن قطع البث والعودة للاستوديو مثلاً، كما يمكن التشاور بين المراسلين وإدارات التحرير قبل التصوير، وأدى ذلك لنشوء أخلاقيات إعلامية ومهنية بهذا الخصوص في الدول الغربية. كما أدى لحصول حالات التعتيم الإعلامي في الدول الشمولية، التي استخدمت الإعلام لنقل صورة مشوهة من الأحداث المحلية مثلاً.

تلك الحالة اختلفت تماماً، فمعيار الرقابة اليوم بات محدداً بشركات التكنولوجيا نفسها، التي أعطت الأفراد القدرة على بث ما يشاؤون. وشهد العام 2016، أول حوادث متطرفة تم بثها عبر خدمات البث المباشر، بما في ذلك حادثة انتحار فتاة تبلغ من العمر 12 عاماً وحوادث اعتداء جنسي واعتداءات جسدية وتعذيب وخطف وغيرها، وتم اعتماد بعض تلك المقاطع كأدلة في المحاكم أيضاً حسبما تشير صحيفة "نيويورك تايمز".

في السياق، صنعت وسائل الإعلام التقليدية عبر البث المباشر من نيويورك خلال هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، لقطات لن تنسى من الذاكرة البشرية، والتي وجهت النظر لخطر التطرف الإسلامي العابر للقارات. وبالمثل يجب التعامل مع البث المباشر لمجزرة نيوزيلندا لتوجيه الاهتمام العالمي نحو خطر التطرف مهما كانت هويته، بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال والتعامل مع مشاكل الهوية والانتماء والهجرة والتطرف والفقر والبطالة بشكل سطحي والاكتفاء بلوم شركات التكنولوجيا على تلك المشاكل التي لم يتعمد سياسيو الكوكب تجاهلها لسبب أو لآخر.

ورغم أن الحوادث السلبية التي نقلها البث المباشر في "فايسبوك" أو أي منصة أخرى، إلا أن هنالك آلاف الحالات الإيجابية التي ساهمت فيها تلك التقنية في نقل الحقيقة، وإحداث أثر إيجابي، بداية من ثورات الربيع العربي ضد الدكتاتوريات المحلية في الشرق الأوسط، وصولاً إلى أحد مقاطع البث المباشر في التاريخ والذي يصور إطلاق رجل شرطة النار من سيارته على مواطن أميركي أسود البشرة في مينيسوتا العام 2016، ما أسهم في إعطاء زخم جديد كلياً لحركة "بلاك لايفز ماتر" المطالبة بالمساواة العرقية في الولايات المتحدة.