"ملوك التهريب" في بار "برشلونة": "نحرق الدنيا برفّة عين"!

المدن - ميديا
السبت   2019/12/07
المغني محمد الشيخ المقيم في أنطاكيا: "نحن زلم الجد الجد" حققت أكثر من 10 ملايين مشاهدة في "يوتيوب"
يلاقي المغنون السوريون على الحدود التركية، رواجاً وشعبية كبيرة رغم أن مضمون كلمات أغانيهم يتحدث عن الواقع الأليم الذي خلّفته الحرب السورية.

وتمجد الأغاني التي رصدتها صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير حصري، المهربين، وتسرد حكايا مأساوية عن الشعب السوري. ففي عالم مُغنّي الحدود السوريين، يعتبر وليد الأمير، الملك، وهو مؤلف أغنية بوب رائجة حققت نجاحاً كبيراً وحققت 1.6 مليون مشاهدة في "يوتيوب". ويغني الأمير في النوادي المنتشرة على الحدود التركية ويقول مردداً: "جميع الزبائن هناك لصوص".

والحال أن زبائن النوادي الليلية في المنطقة هم مهربون في الواقع، وأصبحوا يتبخترون بالأموال التي كسبوها على حساب عدد لا يحصى من اللاجئين السوريين. وفي هذه الأيام، يزهو المهربون المجتمعون حول الطاولات المنخفضة، بغناء وليد الأمير عندما يغني ويمتدحهم. ويغني قائلاً: "نحن أسياد الحدود" من أغنيته الشهيرة "ملوك التهريب". وهي الأغنية التي اشتهرت في "يوتيوب" وغنّاها باللهجة الشعبية السورية مع أنغام تتصاعد وتنخفض مثل "بعوضة تحوم حول الأذن".

وتفجرت الأغنية في مشهد موسيقي في جنوب تركيا، حيث ينتشر عدد من المغنّين الشعبيين المعروفين في النوادي الحديثة. وأغلب هؤلاء المغنين هم من لاجئي الحرب السوريين ووجدوا إلهامهم هناك كما أن جمهورهم من المحافظات الحدودية التركية، حيث استقر ما يزيد على مليون سوري. كذلك تردد صدى الأغاني خارج تركيا، حيث الشتات السوري كبير في الدول العربية مثل الأردن ولبنان.

وقال مغني الأغنية، واسمه الحقيقي وليد ملندي: "لقد اختبر معظم الناس هنا معاناة التهريب". ويستوحي ملندي بعض الأغاني، مثل "ملوك التهريب"، من الموسيقى الشعبية للكادحين الذين يجعلون من المجرمين أبطالاً، ويذكر ذلك بتأثير تجارة المخدرات في المناطق الحدودية بين المكسيك والولايات المتحدة حيث يحتفل المغنون الشعبيون هناك متفاخرين بتجار المخدرات.


من الأسماء الأخرى التي لاقت شهرة واسعة، المغني الشعبي محمد الشيخ الذي يعيش في أنطاكيا. ومن أبرز أغنياته "نحن زلم الجد الجد". وتقول إحدى أسطر الأغنية: "نحرق الدنيا كلها بس برفّة عينينا"، علماً أن هذه الأغنية أكثر شعبية من "ملوك التهريب" بتسجيلها أكثر من عشرة ملايين مشاهدة في "يوتيوب". كما أكسبت الشيخ (26 عاماً) دعوات لتقديم حفلات في البحرين وقطر وحتى روسيا، حسب تعبيره.

وظهرت هذه الأغاني بينما يواجه الشتات السوري مستقبلاً بائساً ومجهولاً في تركيا على نحو متزايد. حيث عملت حكومة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على ترحيل المئات من السوريين خلال الأشهر الأخيرة الماضية، بحسب منظمات حقوق الإنسان. كما أعلنت تركيا نيتها أيضاً إعادة توطين ما يزيد عن مليون لاجئ في منطقة شمال سوريا التي قام الجيش التركي بغزوها مؤخراً، بدعم من فصائل المعارضة المسلحة الموالية له، وذلك على الرغم من عبور المئات من السوريين بشكلٍ أسبوعي نحو تركيا هرباً من العنف أو الصعوبات الاقتصادية.

ونشأ ملندي في عائلة من الطبقة العاملة في محافظة إدلب الشمالية في سوريا. وترك المدرسة بعد الصف السادس ليعمل لسنوات كعامل في مجال الديكورات المنزلية. وبعد انشقاقه عن الجيش السوري منذ ستة أعوام، غادر إلى تركيا عبر الحدود قبل أن تقيم الأخيرة جداراً حدودياً بين البلدين، وقبل أن يصبح اللجوء إلى المهربين ضرورة ملحة لعبور الحدود. وبالرغم من سنوات عمره الـ28، وبالرغم من حلاقته لشعره ولحيته الكثيفة، إلا أنه يبدو أكبر سناً من ذلك. فعلى حد تعبيره: "الزمن كبّرني".

وعند وصوله إلى تركيا، غيّر ملندي مهنته واتجه نحو الموسيقى معتقداً أنها قد تجلب له مكاسب أكبر، وتجنّب عائلته الاعتماد على المساعدات التي تقدمها الحكومة التركية. وفي البداية، بدأ بالغناء في الأعراس، ثم في نادٍ صغير. وجلبت له أغنيته الأولى نداءات من عدد من المهربين الذين قالوا أنهم سيمنحونه ألف دولار إذا ما قال بأنهم ملوك العالم. وأضاف: "لقد بدأت في الحصول على عروض وصلت قيمتها إلى الضعف". وقد اعتمد المهربون مقاطع من أغانيه كوثيقة دعم واعتماد لدى العملاء المحتملين، أو للتفاخر بها بين زملائهم من المهربين.

وأوضح ملندي أن أغانيه في البداية اكتسحت عالم المهربين الغامض، والذين أصبحت تجارتهم المُعتمدة على نقل المهاجرين عبر الحدود إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، أكثر درّاً للأرباح من التجارة بالذهب خلال الحرب الأهلية السورية التي انطلقت قبل 8 سنوات. وأضاف: "لقد استأجرت حارسين شخصيين لنفسي"، علماً أن المطرب الشاب كان يحظى بشعبية كبيرة لدرجة أن أحد النوادي المشهورة حيث اعتاد الغناء، اضطر للإغلاق عندما تركها ملندي. لكنه يعتبر المهربين متغطرسين، وقال: "إنهم يلقون هذه الأموال علينا وفي الواقع يحصلون عليها من الناس الفقراء القادمين من سوريا"، لكنه رغم ذلك الموقف مازال يغني لهم في النوادي.

وفي إحدى الأمسيات، كان ملندي النجم الجذاب في افتتاح كبير لبار جديد أطلق عليه اسم "برشلونة" في المنطقة الصناعية بمدينة أنطاكيا. وكان الضوء الأحمر يضيء مدخل البار وداخله، وزُيّنت الجدران بصور لـ"براين دي بالما" من فيلم "سكارفيس". وكان العاملون يديرون البار بعد الافتتاح بساعات بشكلٍ عشوائي، حيث لم يكن قد ظهر أي من الزبائن بعد. وبعدما بدأت الطاولات بالامتلاء، أشعل أكرم مصطفى، وهو مغن من حلب، الحضور بمواله "قلبي في سوريا وجسمي في تركيا". وعندما بدأت حشود الأغنياء بالوصول بسياراتهم الفارهة كان وقت المديح قد حان.

وقال ملندي بحذر متجنباً إطلاق توصيف المهربين على الحضور: "لقد كانوا تجار سيارات". وهو أمضى وقتاً طويلاً من الأمسية على طاولاتهم، وألّف من أسمائهم ومدنهم في سوريا، أغنية ملحمية عن الحرب القريبة البعيدة، والتي سرعان ما نسيها.


أما محمد الشيخ، فلديه حفلات منتظمة يؤديها، ست ليالي في الأسبوع، في "بيت الجبل" المطل على مشارف أنطاكيا. وكانت حفلته في ليلة الجمعة الأخيرة أكثر صخباً من حفلة "برشلونة" وكانت تعج بالرجال من أعمار مختلفة، البعض منهم برفقة إناث من العاملات في النادي.

وبحسب الشيخ، فإن وصلته تمتد بشكلٍ عام من منتصف الليل حتى الساعة الخامسة فجراً. وعادة ما تكون هناك طاولة للمهربين، إلا أن معظم زبائنه من رجال الأعمال العاديين. كما أنه يكسب ما يكفي لإعالة أسرته، إلا أنه محاصر أيضاً. فالشيخ، كلاجئ سوري، لا يمكنه التنقل بين المدن التركية من دون رخصة من الحكومة. ما يضطره للاعتذار عن تلبية دعوات لتقديم حفلات موسيقية في اسطنبول ومدن أخرى. كما أنه لا يستطيع السفر للخارج للقاء جمهوره في أجزاء أخرى من العالم العربي أو حتى أوروبا، بسبب صعوبة حصول اللاجئين السوريين على جواز سفر.

وكان الشيخ طالباً، قبل أن يترك سوريا. ومثل ملندي، غنى بدايةً في حفلات الأعراس، قبل أن يبدأ بتأليف الأغاني العام 2015. ففي سوريا لم توافق عائلته على عمله في مهنة الموسيقى. لكن في تركيا، حيث يبدو اللاجئون أكثر حريةً أو مجبرين على إعادة اكتشاف أنفسهم، كانت الأمور مختلفة بحسب تعبيره. حيث حقق نجاحاً من كتابته لأغنية "نحن زلم الجد الجد"، ويقول فيها "واللي يتمرجل علينا قبرو بفرشتو ينمد".

وأشيع بأن الأغنية تسببت بقتال حقيقي في سوريا، عندما هاجمت مجموعة من الرجال الذين يعزفون اللحن، مجموعة أخرى أخطأت في الألحان. وغالباً ما تعزف هذه الأغنية في الأعراس. وبحسب الشيخ، فإن الكثير من المطربين حاولوا تقليده. كما أكد بأن الأغنية ما كانت إلا "تعبيراً" عن القوة والمعاناة، وأن فيها شفاء لبعض السوريين الشاعرين بالضعف الذي يمكن أن يرافقهم في المنفى، مضيفاً: "لقد سئم الناس من الحزن".