لماذا استلهم الفرنسيون من اللبنانيين شعاراتهم؟

حسن مراد
السبت   2019/12/21
منذ ما يقارب الأسبوعين، بدأ الشارع الفرنسي يختبر غلياناً حاداً بعد عرض حكومة إدوارد فيليب لمشروعها الرامي إلى "إصلاح" نظام التقاعد. ورغم انشغال اللبنانيين بمتابعة التطورات الداخلية لبلدهم، إلا أن الحدث الفرنسي حلّ ضيفاً خفيف الظل على رواد مواقع التواصل الاجتماعي. 
لا شك أن لبنانياً مقيماً في فرنسا وناشطاً في المجال النقابي هو من اقترح هذه العبارة على أقرانه الفرنسيين، ومن الجائز أن يكون قد أقنعهم بفكرته نظراً لنبذ المتظاهرين الفرنسيين، بدورهم، لمجمل أحزابهم السياسية، فاستحسنوا تلك العبارة خاصة وأنها تدور في فلك ما عبروا عنه بالفرنسية: الشعب يريد تقاعد النظام (Le peuple veut la retraite du régime) وهي عبارة تحمل نوعاً من اللعب على الكلام عبر إعادة ترتيب عبارة "نظام التقاعد" (Régime de retraite) .

ومثلما تفاعل اللبنانيون، في لبنان وفرنسا، مع هذه الصورة من خلال النشر والتعليق والاعجاب والمشاركة ، كذلك فعل الفرنسيون إلا أنهم لم يكترثوا للعبارة المكتوبة بالعربية، فما كُتب بالفرنسية بات أحد الشعارات البارزة في تظاهراتهم الأخيرة ويمكن ملاحظة ذلك من خلال استخدامه في مظاهرات عديدة كما في التغريدات في "تويتر".

من جانب آخر وفي الأيام الأولى للتظاهرات الفرنسية، وعبر صفحة "لبنانيون في باريس" (Libanais à Paris)، تم تداول صورة وهي عبارة عن لقطة من شاشة محطة BFMTV الإخبارية يظهر فيها علم لبناني في قلب التظاهرة. وقد تفاعل أعضاء الصفحة معها بمزيج من الفخر والتندر، إذ رأوا فيها نموذجاً للمغترب اللبناني الحاضر في شتى الساحات والمتأهب للاندماج في محيطه.

أمرٌ آخر أثار اهتمام الجالية اللبنانية في باريس، وهو شلل شبكة النقل العام بعد انضمام العاملين فيها لحركة الإضراب. وتجلى الأمر من خلال محادثات يومية في صفحة "لبنانيون في باريس" تطرقت الى وسائل النقل المتاحة وتلك المتوقفة عن الخدمة. الأثر السلبي لهذا الشلل لم ينحصر في الحياة اليومية لسكان العاصمة، ومن ضمنهم اللبنانيون، بل انسحب على مختلف الأنشطة: فبفعل الإضراب تراجع عدد المشاركين في التظاهرة الأسبوعية الداعمة للبنان، كما تم تأجيل عدد من الأنشطة لإدراك المنظمين صعوبة نجاحها في مثل هذه الظروف.

ورغم رغبة اللبنانيين في اظهار اندماجهم في المجتمع الفرنسي، يمكن تسجيل مفارقة، وهي أن النقاش الذي يشهده الشارع الفرنسي حول مشروع نظام التقاعد غاب تماماً عن صفحات اللبنانيين المغتربين. من الجائز أن يكون اهتمامهم منصباً على متابعة مجريات الأحداث في وطنهم الأم، كما يجوز الافتراض أنهم لم يجدوا في هذه الصفحات والمجموعات الافتراضية المساحة الأنسب لتناول الشأن الفرنسي، بل رغبوا في أن تبقى هذه المنصات مخصصة للوضع اللبناني الداخلي.

وكان رئيس الوزراء الفرنسي، إدوارد فيليب، قد عرض تفاصيل مشروعه أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. ويهدف هذا المشروع إلى إقامة نظام موحد وشامل للتقاعد، وهو أمرٌ سينهي العمل بأنظمة التقاعد الخاصة في بعض القطاعات المهنية اذ تعتبرها الحكومة مكلفة من الناحية المادية، وغير منصفة، نظراً للامتيازات الاستثنائية التي توفرها للمستفيدين منها. 

ويرتكز النظام الجديد على مبدأ النقاط، حيث سيتم تحويل ما يدخره الفرد إلى نقاط، وذلك إلى حين بلوغ سن التقاعد ليتم احتساب الراتب التقاعدي على أساس النقاط. بالتوازي سيمنح القانون حوافز مالية لدفع الأفراد للتقاعد في سن الـ64 بدلاً من سن الـ62 المعمول به حالياً، إلى جانب حزمة من الاقتراحات الجديدة ترى فيها الحكومة مدخلاً للوصول إلى نظام تقاعد أكثر عدالة ومساواة.

وقد تباينت مواقف النقابات الفرنسية حيال هذا النظام الجديد: بين نقابات ذات إرث يساري تطالب بالتراجع عن المشروع برمته، وأخرى تصف نفسها بالإصلاحية تعترض عليه بصورة جزئية. هذا التباين لم يحل دون توحد النقابات تحت راية واحدة، لا سيما في تظاهرة الثلاثاء الماضي: فالنقابات كلها متمسكة بسن التقاعد الحالي، أما تلك التي تعترض على مبدأ النظام الموحد القائم على النقاط، فإنها ترى فيه تعميقاً للتفاوت الاجتماعي إذ سيتم احتساب الراتب التقاعدي على أساس المبلغ المدخر، وليس مدة العمل كما هو الحال اليوم، إضافة إلى اعتبار أنها لا تملك أية ضمانات لطريقة احتساب النقاط. 

وتحاول الحكومة الاستفادة من هذا التباين، حيث أبدت في الأيام الأخيرة استعداداً لمراجعة القانون، مراجعة إذا ما تمت قد تفضي إلى استمالة النقابات الإصلاحية وبالتالي شق صفوف المتظاهرين.

إذا ما نظرنا إلى التغطية الصحافية للحدث الفرنسي، نلاحظ أنها تحمل نوعاً من القصور، فالصحف عرضت موقف كل نقابة من المشروع، إلا أنها لم تستفض في شرح سبب الاعتراض وخلفياته كما يلزم. 

في الواقع انصب اهتمام الصحف على أمرين اثنين: أولاً عرض لنظام التقاعد الجدي،د وثانياً للكباش بين الشارع والحكومة مع اقتراب أعياد نهاية العام، إذ من المحتمل أن تؤدي مشاركة عمل السكك الحديدية في الإضراب إلى منع الفرنسيين من قضاء هذه الإجازة مع عائلاتهم، وعلى وجه الخصوص ليلة الميلاد. هذه النقطة هي محط خلاف أيضاً بين النقابات، ففيما تصر نقابات على الاستمرار بالإضراب أياً تكن الظروف، تؤيد النقابات الإصلاحية إجراء "هدنة" في فترة الأعياد. 

فيما يخص الشرح والعرض تنوعت الأساليب: بين من عرض لمشروع الحكومة من خلال أمثلة حية، أو على شكل تعداد لأبرز لنقاط، وقد اختلف عدد النقاط المعروضة بين صحيفة وأخرى. 

صحيفة Le Monde اليسارية لم تكتف بعرض المشروع بصورة مفصلة جداً، بل اختارت أن تصوره على شكل رسوم متحركة حملت عنوان "لماذا يصعب إصلاح نظام التقاعد بصورة عادلة؟" في إشارة إلى تعقيدات هذا الملف. 

صحيفة Le Figaro ذات التوجه اليميني خصصت عدداً من المواضيع لشرح الواقع الاقتصادي - الاجتماعي الذي "يتنعم" به الفرنسيون، وقد دعمت موقفها ببيانات رقمية واحصاءات، والهدف هو أن ينظر الفرنسيون بإيجابية إلى واقعهم الراهن ويكفوا عن التذمر، أي بصورة غير مباشرة حثهم على القبول بنظام التقاعد الجديد. أما صحيفة L'Humanité الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، فقد أصدرت عدداً خاصاً يوم تظاهرة الثلاثاء لتفنيد هذا المشروع، حيث قام محازبون بتوزيعه مجاناً للمتظاهرين. 

في كل مرة تطرح حكومة فرنسية مشروعاً لإصلاح نظام التقاعد، تجد نفسها في مواجهة الشارع، هذا هو حال فرنسا منذ 34 عاماً. فنظام التقاعد من المسلّمات التي لا يجوز المسّ بها لدرجة يمكن تشبيهه بمقبرة السياسيين الفرنسيين. 
النقابات ترى فيه أحد السبل للحفاظ على عدالة اجتماعية في كنف منظومة اقتصادية تميل كفتها لصالح الطبقات الميسورة، أما الممسكون بمفاتيح السلطة فيعتبرون أن هذا النظام لم يعد متكيفاً مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية في فرنسا والعالم. وما بين هذين الفريقين، جولات في الشارع وعلى طاولة المفاوضات.