الإعلام المصري وأطفال التهريب: لقاء عالَمَين

أحمد ندا
الثلاثاء   2018/08/07
الفيديو يشابه كثيرا البرامج الفضائحية التي انتشرت عبر التلفزيون المصري في التسعينيات
طفل تحدى مذيعة مصرية، بات نجم مواقع التواصل الاجتماعي، ليس لأنه تحدى الكاميرا بدلاً من الهروب من مواجهتها، بل لأنه كشف حقائق مصرية تتعلق بتردي الاوضاع الاجتماعية، وحاجة الناس لإعالة عائلات، حتى لو كان ذلك بالتهريب!
تقف المذيعة/الموظفة أمام صف من الأطفال والمراهقين، مرصوصين أمام حائط يبدو عليهم بعض الوجل بعيون تدور لتستكشف المكان، فيما تفاجئهم الكاميرا وسيدة محجبة تحمل الميكروفون، وتبدأ الأسئلة التي لا تتوقع إجاباتها: لماذا تخالفون القانون، لماذا تهربون؟ ولماذا لا تعملون في النظافة، لماذا لا تعملون في الاستثمار؟ الأطفال يتلعثمون ولا يستطيعون الرد، حتى يتجرأ واحد ويكون هو بطل الفيديو، ليردّ بما أراد كل مشاهدي الفيديو أن يقولوه.

المذيعة: جاي من سوهاج لبورسعيد عشان تهرب؟
الطفل: أه.. أعمل ايه؟
المذيعة: اشتغل في الاستثمار أو في شركات النضافة
الطفل: بـ50 جنيه في اليوم؟
المذيعة: على الأقل شغله شريفة
الطفل: 50 جنيه متقضنيش.. تقضي مين؟
المذيعة: على الأقل 50 جنيه حلال
الطفل: أنتي مش حاسه بالناس.. 50 جنيه توكل 3 بنات.. توكل أم.. مش ليا أنا.. بس شوفي الناس.. الحالة صعبة
المذيعة: الحالة صعبة على الكل.. اشتغلوا في الاستثمار.. أنا زعلانه على ده
الطفل: إحنا زعلانين على روحنا برضو
مذيعة: أنت بتستسهل
الطفل: أنا اتعورت.. عشان أجيب فلوس.. عشان اروح أعيد.. إزي معرفش أكسي أختي.. امسكوا اللي بيهرب بمليون جنيه.. بتمسكوا الغلابة اللي زينا أبو 150 جنيه

المفاجأة لمن يشاهد الفيديو دون معرفة سياقه، ستكون بالتأكيد في أن هؤلاء الأطفال لا يهرّبون المخدرات أو السلاح أو أي من السلع المحرمة قانوناً، لكنهم يهرّبون الملابس من الجمارك، وهو ما يعتبره القانون جريمة أيضاً، لكنه لا يتساوى مع الجرائم الكبرى. 

الفيديو يشابه كثيراً البرامج الفضائحية التي انتشرت عبر التلفزيون المصري في التسعينيات، والتي تلتقي مع مجرمي القتل والاغتصاب وغيرهم. طريقة تنفيذ الفيديو كانت هي نفسها مع أطفال تهريب الملابس.

انفجر الغضب في مواقع التواصل الاجتماعي، إثر جرأة الطفل الذي ردّ على المذيعة كلمة بكلمة، وجملة بجملة، والكل يعلم أن ما يقوله الطفل هو قبح الواقع ومأساويته التي تزداد يوماً بعد يوم. فيما المذيعة/الموظفة، لا تفعل شيئاً سوى القراءة من كتاب اللوائح الذي ملأ رأسها. لا ترى في هؤلاء ضحايا الوضع المأزوم، فحوّلتهم إلى مجرمين خالصين، محاوِلةً أن تصنع دعاية مراوغة للمحافظة، فانقلب السحر على الساحر.

تحت هاشتاغ #مذيعة_بورسعيد، انفجر الغضب في مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل صارت الحكاية موضوعاً جاذباً للصحف والمواقع والبرامج، في زمن ساد فيه الركود الخبري والإعلامي. الأرض جدباء متعطشة لمثل هذه الأخبار المثيرة، بثنائيتها التي تجتذب الجمهور "الغلبان الفصيح" و"المتجبر الغبي". هكذا، أخذ الفيديو يكبر ويكبر، حتى تدخل رجل الأعمال نجيب ساويرس وتصالح مع الجمارك، وهاجم المذيعة.

بعدما هدأت العاصفة قليلاً، وبعدما صار هؤلاء الأولاد ضيوفاً جذابين في المواقع والبرامج، بدت المذيعة نفسها ضحية الركود الخبري والإعلامي أيضاً.هي مجرد موظفة من عشرات الموظفين في عشرات المحافظات، دورها تقديم تقارير محلية، بل شديدة المحلية لمحافظتها، وقد لا يزيد عدد متابعيها عن أصابع اليد الواحدة. هي إذن قد لا تعتبر ما تفعله عملاً إعلامياً، بل واجباً وظيفياً. ربما لو نبش رواد مواقع التواصل، في بقية المحافظات، لوجدوا ما يشابه الفيديو وأكثر. المذيعة إذن هي بنت الهيكل الضخم الكبير للدولة، تريد أن تقوم بدورها فقط، فأصابها سوء الحظ الذي جعلها محط اهتمام مواقع التواصل.

ربما على هذه الثورة الغاضبة أن تهدأ لترى أن الأطفال، كما المذيعة، ضحايا جميعاً، لوضع يخلق الضحايا من الجانبين بلا تمييز، أمام الميكروفون وخلفه.