أردوغان في فوزه الجديد: الإعلام ومشروع الامبراطورية

بتول خليل
الإثنين   2018/06/25
بات واضحاً أن أردوغان يتقن جيداً كسب قلوب وصوت الشعب والاعلام (غيتي)
للمرة الاولى منذ قيام الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك قبل أكثر من 90 عاماً، تدخل الحياة السياسية في تركيا منعطفاً تاريخياً سيغيّر ملامح النظام السياسي في البلاد، بعد حصول رجب طيّب أردوغان على تفويض شعبي بذلك، إثر فوزه بولاية رئاسية ثانية، ستضع بين يديه صلاحيات غير مسبوقة، تجعل منه الرجل الأقوى في تاريخ تركيا الحديث.


أردوغان الذي نال نحو 52.7% من أصوات الناخبين في الانتخابات المبكرة، الأحد، كان قد حصل على أكثر بقليل من أصوات نصف الاتراك الذين شاركوا في الاستفتاء الدستوري الذي شهدته البلاد العام الماضي، والذي أقرّت على إثره تعديلات كبرى، كرستها الانتخابات الأخيرة، التي وسعت مقاليد حكمه وشرّعت له الأبواب كي يعبر من خلالها إلى عهد جديد سيشهد ولادة "الجمهورية التركية الحديثة"، يتولاها أردوغان وحزبه الذي أطلق على المرحلة الجديدة تسمية "مشروع القرن".

مسارعة أردوغان للاحتفاء بفوزه، لها مبرراتها واعتباراتها التي كان في مقدمتها أن نتيجة الانتخابات كرسته بوضوحٍ رئيساً كلفه الشعب التركي لقيادة بلاده. إلا أنّ اللافت كان في الحملة الاعلامية التي واكبت الانتخابات والتغطية التي اتت بعدها، والتي لم يتم التركيز فيها على أردوغان وسماته الشخصية، بل ذهب جلّ اهتمامها إلى إظهار مدى التأييد الشعبي للخطوات السياسية الكبيرة التي يهمّ بالسَّير فيها في المرحلة المقبلة.

هذا الخطاب هو ما تنباه الاعلام التركي المؤيد لأردوغان بشكل واضح وممنهج ضمن سياسة مدروسة عملت في المرحلة السابقة، إبان الانتخابات الاولى، على السعي لتكريس زعامة أردوغان، وتهشيم صورة خصومه والنيل منهم، سواء كانوا في الداخل أو الخارج. في حين أن التعاطي الاعلامي مع هذه الانتخابات بدا مختلفاً بشكلٍ واضح، كونه صوّب مجهوداته باتجاه تكريس فكرة التغييرات والسياسات الكبرى التي ينوي الرجل اعتمادها في الداخل التركي وفي الخارج، الأمر الذي سيترك آثاره في المنطقة المحيطة بتركيا بأجمعها، ما سيغيّر المعادلات السابقة ويجعل من صوت تركيا أكثر اندفاعاً وأبعد صدى.

العظمة والأهمية التي قارب بها الاعلام التركي الموالي لأردوغان فوزه بولاية ثانية، اعتبر أنها واحدة من أكبر الانتصارات في تاريخ تركيا. كما أن صحيفة "يني شفق" أكّدت أن فوز أردوغان هذه المرة يدّل إلى أنه "صنع التاريخ مرة أخرى ضد جميع الهجمات المحلية والاقليمية والعالمية والعمليات السرية والجبهات التي تشكلت ضده، بما فيها محور الخيانة الذي تم إنشاؤه وانتشاره داخل البلد"، مضيفة أنّ أردوغان، قائد التحول الكبير في تركيا، نجح من خلال الديموقراطية في أنّ يختزل كرئيس، أول تجّمع للسلطة بعد الامبراطورية العثمانية، بعد أن بايعته تركيا ووهبته السلطة والحب والقوة لاكمال ما بدأ به، والذي سوف يستمر بخطوات أكبر.

الاعلام نفسه كان قد ردد طوال الفترات السابقة بأن الاصلاحات آتية، وطلائع التغييرات الجذرية آن أوانها وستتوالى ولن تتوقف، انبرى اليوم للتركيز على فكرة أنّ استمرار أردوغان وتبوأه موقع الرئاسة والعمل ضمن النظام الرئاسي الجديد، ما هو إلا رأس الجبل الجليدي الظاهر، والذي يعتبر بمثابة بداية التغيير المرتقب، وقيام النهضة التي ستبدل وجه تركيا وصورتها على مختلف المستويات.

كما أن العديد من وسائل الاعلام سارعت إلى ترويج بداهة فكرة أنّه من الآن فصاعداً ستكون حركة أردوغان من دون أي قيد أو حدّ في رسمه وممارسته لسياساته المقبلة، سواء لناحية دعم جيشه خلف الحدود أو في مجموع القضايا الكبرى المختلفة، والتي يتصدر أولوياتها إصلاحات خلافاته مع الاتحاد الأوروبي واستكمال ما بدأ من مشاورات وإجراءات بشأن ضمّ تركيا إليه. كما أنه سينكّب على التعامل مع مختلف ملفات المنطقة بحزم أكبر، أولها ملف اللاجئين وقضية الاكراد ومسألة التفاوض معهم، والملفات المتعلقة بدول الجوار مثل العراق وسوريا ومصر. 

الكلام عن "النصر الكبير" الذي ورد في الاعلام التركي إبان الاستفتاء على تحويل النظام التركي من برلماني إلى رئاسي، تحوّل اليوم باتجاه أردوغان الذي "تستحق جهوده الكثير من الثناء، كونه الزعيم الوحيد في العالم الديموقراطي، الذي ظلّ يلجأ إلى الانتخابات والاستفتاءات طيلة الـ16 عاماً الماضية ولم يخذله الشعب مرة واحدة، ولا يزال يحظى بدعم متنامٍ ومضطرد من شعبه". وعلى الرغم من أن الانتخابات المبكرة غير مرغوب بها عادة من قبل الناخبين، إلا أن سلوك الناخبين الاتراك أظهر أمس أن هذه الانتخابات كانت عملية مرحب بها من قبلهم لتغيير النظام، تقول صحيفة "دايلي صباح" رداً على ما أسمته "التحليلات القميئة" التي أطلقها صحافيون وخبراء تنبئوا بهزيمة أردوغان في هذه الانتخابات، واضعة اياها في سياق الحملة الشرسة التي يقودها الغرب ومناصريه في تركيا، الذين يريدون لبلدهم التراجع بدلاً من القفز الى الامام.

طوال سنوات حكمه بات واضحاً أن أردوغان يتقن جيداً كسب قلوب وصوت الشعب والاعلام، واستمالتهم على الدوام كي يكونوا إلى جانبه ويعملوا لمصلحته. ففي كل حدث رئيسي ومفصلي طرأ أو تخللته الحياة السياسية لأردوغان، والتي ناهز عمرها 16 عاماً، تجلّت براعته على الدوام في كيفية التعامل مع الانتقادات التي طالته طوال هذا الوقت، والتي جعلها من خلال حنكته تنقلب لصالحه وتعزز من شعبيته في أكثر من محطة وموقف.

الاستياء الكبير الذي أبداه الاعلام الأوروبي والأميركي من فوز أردوغان بولاية رئاسية ثانية، والذي اعتبر أن فوزه يشكّل تهديداً جيواستراتيجياً سينجم عنه المزيد من عدم الاستقرار في سوريا والمنطقة، وذلك على اعتبار أن الفكر الاردوغاني يتغذى على المشكلات و التوترات والصراعات مع دول الجوار والخارج، هذا الاستياء نجح الاعلام التركي ببراعة في إظهاره أمام الشعب بأنه ليس سوى حملة خبيثة ليس لها أي ترجمة في الواقع، وهي تهدف في الأساس إلى النيل من دور تركيا خوفاً من دورها الاقليمي المتعاظم.