"تحرر" كريستينا أغيليرا: تعرٍّ وتجديد.. وذكريات مايكل جاكسون

وليد بركسية
الجمعة   2018/06/22
عندما طرحت المغنية العالمية كريستينا أغيليرا أغنيتها المنفردة الأولى "Accelerate" الشهر الماضي، تمهيداً لألبومها "Liberation" الذي صدر قبل أيام، كان التساؤل الوحيد حينها يدور حول مكانة أغيليرا في الموسيقا المعاصرة وما الذي تعنيه للعالم في 2018 ضمن شروط سوق الإنتاج. والألبوم بتنوعه وترتيب أغنياته يجيب عن تلك الجزئية، ويظهر صاحبته كديفا حقيقية تغير معايير اللعبة لصالحها وتخلق خطوطاً خاصة لا تشبه السائد، مثلما يفعل أساطير الموسيقا كمايكل جاكسون على سبيل المثال.


وفي الألبوم الأول لها منذ ست سنوات، بعد ألبومين "فاشلين"، وضعت أغيليرا كل شروط السوق جانباً لتقدم فناً بحتاً، يعبر عنها أولاً كإنسان وكامراة وكمغنية، وتخلت بوضوح عن الموسيقا الألكترونية السائدة وعادت إلى الجذور كما عنوان ألبومها الشهير "Back to Basics" وتعرت مثل ألبومها الأشهر "Stripped" متخلية عن ماكياجها الثقيل المعروف، من أجل أن تتحرر، علماً أن أغنيات الألبوم جميعها تحوي إشارات لتاريخ أغيليرا، ولا تحاول هنا تذكير الجمهور بنجوميتها منذ اواخر التسعينيات، بل يبدو ذلك أقرب لتقدير للذات بعدما ظلمت أغيليرا نفسها كثيراً في السنوات الأخيرة، وبالتالي يصبح الألبوم نقطة تحول ذاتية.


والحال أن جاكسون كرمز للتحرر الموسيقي وخلق موسيقا البوب في الثمانينيات، حاضر في الألبوم، حيث استخدمت أغيليرا صوته من أغنيته الكلاسيكية (You Were The Only One) العام 1972 وكان حينها طفلاً مشهوراً في الرابعة عشرة من العمر، لإنتاج أغنية "Maria" التي تبحث فيها أغيليرا عن ذاتها الضائعة، مع الإشارة إلى أن الاسم الأوسط لأغيليرا هو ماريا. ويمتزج صوت أغيليرا بصوت الطفل جاكسون بعذوبة مذهلة، وبين الصرخات والتأوهات، والمقدمة المستوحاة من فيلم "ساوند أوف ميوزك"، تبحث أغيليرا عن ذاتها الموسيقية التي حبستها شركات الإنتاج منذ كانت طفلة تغني لشركة "ديزني" مع غريمتها الأبدية بريتني سبيرز.

وهنا تقول أغيليرا أن شركات الإنتاج أجبرتها على اتخاذ مسار معين منذ نجاحها بتحويلها إلى آلة لتقديم موسيقا بلا روح، وهو ما برز في ألبوميها الأخيرين "Bionic" و"Lotus"، اللذين رغم حب جمهور أغيليرا لهما، كانا فاشلين على مستوى النقد ومستوى المبيعات، قبل أن توضع أغيليرا جانباً على مقعد جامد في برنامج "ذا فويس" لعدة سنوات ما منعها من العمل وتقديم موسيقا جديدة، لترد على كل ذلك بأغنية "Sick of sitting"، وفيها تطلق أغيليرا لنفسها العنان مع الروك، في إنتاج مبهر يحاكي الأداءات الحية، ويذكر كثيراً بأغنيات جاكسون الثورية في ألبوم مثل "باد".

ترتيب الأغاني في الألبوم ليس عبثياً، فالبداية مع موسيقا تمتزج بأصوات أطفال كذكريات بعيدة لأغيليرا الطفلة التي حلمت بالغناء لا بالنجومية، ثم أغنية ماريا مع جاكسون، وبعد أغنية "Sick of sitting" تأتي أقوى أغنيات الألبوم "Fall in Line" مع النجمة ديمي لوفاتو، وهي اسم كبير في عالم الموسيقا حالياً، وكانت أيضاً واحدة من طفلات ديزني. وفي الأغنية الضاربة توصل أغيليرا نتيجة خبرتها للجيل الأصغر منها ولجميع الفتيات في العالم من أجل الحفاظ على هويتهن وسط عالم يحاول تنميطهن على كافة المستويات، ومن المذهل أن الإنتاج الفاخر للأغنية يتزامن مع حركة نسائية عامة في الولايات المتحدة ودول أخرى وحملات مؤثرة مثل #مي_توو و#تايمز_أب.


هنا يهدأ الألبوم، فعملية التحرر المنشودة انتهت في مطلعه، وتبدأ أغيليرا بضخ موسيقا غير مألوفة، بداية بموسيقا الريغي في أغنية "Right moves" إلى نوع مختلف من البوب الممزوج بالـ"R&B" في "Pipe" التي لا يمكن تمييز صوتها فيها، إلى الراب الممتزج بالهوب هوب الآتي من التسعينيات في "أكسيليريت"، وبينها أغنيات تبرز صوت أغيليرا الكلاسيكي، بنقاء وبساطة من دون أي مبالغات منفرة.

والحال أن الألبوم يشبه كل شيء ولا يشبه شيئاً، حيث تلامس كلمات أغنياته، بلا استثناء، جوانب شديدة العمومية مشتركة عند كل البشر، لكنها تقدم بطريقة مختلفة، بشكل يشابه سلسلات شبكة "نتفليكس" الاجتماعية مثل "إيزي" و"تشيونغ غام". ففي أغنية "Deserve" تتحدث أغيليرا بصوتها عن تجارب حياتية يومية، كيف نحب كبشر ونختار الشخص الذي نريد أن نقضي معه حياتنا وكيف ننفصل، كيف نأكل معاً وكيف نتشاجر وكيف ننسى أن الحياة قصيرة.

صوت أغيليرا في الألبوم يجعل المستمع يذوب، وتحديداً في الأغنيات الرقيقة مثل "Unless it’s with you" التي تشكل أغنية الختام، التي تضع فيها أغيليرا كل جبروت صوتها وحنانه لتقول "لا أريد أن أتزوج، إلا معك". ويبرز هنا التحرر المنشود، فأغيليرا طوال الألبوم تغني كامرأة قوية مستقلة تعرف هويتها وتختار كيف تعبر عنها: كيف اعيش ماذا أختار من عمل، من أحب وكيف أحب، من اشتهي وكيف أعبر عن الشهوة. لا يوجد جنس عنيف ولا حب عنيف، وبالتالي لا اصوات عنيفة غير مبررة، فتأتي كل نوتة عالية وكل "زئير" في مكانه من دون التباهي بجبروت الصوت.

وبما أن الألبوم يشكل نقطة لتقرير خيار مصيري، تظهر الأغنيات إنساناً يدرك خياراته مهما كانت نتيجتها، ولا يندم عليها لو كانت خاطئة وكارثية لأنها شكلت هويته في النهاية. يمكن تلمس ذلك في أغنية "Twice". علماً أن أغيليرا تعاونت مع كثير من مغني الراب (غولد لينك، تو تشاينز، ..)، فالألبوم في النهاية أشبه بحوار بينها وبين الناس المحيطين بها، وتبتعد عن المونولوج أو الغناء لذاتها فقط مثلما كان الحال في أغنيات سابقة لها (Sing for me). وهذا الحوار جديد ويشكل علامة فارقة تختلف بها عن كل الأسماء البارزة في سوق الموسيقا اليوم، مثل مونولوج تايلور سويفت في "Look what you made me do" أو اجترار أديل لذاتها بشكل ممل في كافة أغنياتها. ومع الأصالة والمشاعر التي تلامس كل الناس على كافة المستويات، مثلما يجدر بالفن الحقيقي فعله، قد يكون الألبوم أفضل ألبوم لأغيليرا على الإطلاق.


ويجب القول أن هنالك جهداً واضحاً في صناعة الألبوم الذي عملت عليه أغيليرا طوال أربع سنوات، فتعاونها مع أسماء مثل كايني ويست في أغنيتي "أكسيليريت" و"ماريا" يظهر مدى الجدلية والجدية التي تريدها أغيليرا لتجديد نفسها والحفاظ على هويتها في وقت واحد. كما أن هنالك جهوداً واضحة لإنتاج كل أغنية على حدة، من ناحية التوزيعات والآلات والكتابة، علماً أن الألبوم بكمية التجارب الجديدة فيه، يبدو للحظة نوعاً من الموسيقا المستقلة المنتجة من قبل شركات ضخمة، وهو تناقض مثير للإعجاب، وقد يكون ذلك سبب غناء أغيليرا في محطة المترو في نيويورك للترويج للألبوم في برنامج "The tonight show" مع جيمي فالون.

ويكفي إلقاء نظرة على قائمة الأسماء الطويلة المساهمة في صناعة الألبوم لمعرفة التصميم الذي أرادت أغيليرا العودة به بعد سنوات من الغياب، وهو ما دفع صحيفة "واشنطن بوست" لمقارنته بألبوم "The Emancipation of Mimi" للنجمة مارايا كيري العام 2005 الذي ذكر العالم بها كأسطورة حية. وبالتالي يستحق الألبوم بلا شك الترشح لعدة جوائز "غرامي" في نهاية العام. أما القول بأن الألبوم يفتقد إلى أغنية بوب ضاربة، كأغنيات سابقة مثل "Dirty" أو "Ain't no other man"، لا معنى له بوجود أغنية مثل "Fall in Line"، التي تحقق نجاحاً كبيراً، كما أن ألبومي أغيليرا الأخيرين احتويا أغنيات ضاربة من هذا النوع مثل "Your body" لكن ذلك لم يمنعهما من الوقوع في الفشل عموماً.

وبما أن نجمة بحجم أغيليرا لا تحتاج إلى إثبات جديد على أنها مغنية نادرة أو نجمة تنافس الأسماء الكبيرة المتواجدة، يجب القول أن مكانتها في الفن ليست في النهاية مسألة مهمة لجمهورها (The Fighters)، لأن مجرد الاستماع لها نعمة بحد ذاته كما أن نغمة صوتها قادرة على جعل العالم المظلم فجأة مكاناً أفضل، أما كفاحها اليومي للاستمرار وتقديم الأفضل فيشكل القيمة الأساسية التي تشكل هويتها منذ التسعينيات وحتى اليوم.