الوصاية العائدة

بتول خليل
الأربعاء   2018/02/28
قضية جيسيكا عازار أتت في الوقت الذي تتعرض فيه الحريات الإعلامية في لبنان إلى ما يُشبه المؤامرة والتواطؤ عليها
إطلالة المذيعة في قناة "إم تي في"، جيسيكا عازار، مساء الثلاثاء، في برنامج "هيدا حكي" حملت أكثر من معنى ورسالة، لناحية إعلان عازار تمسّكها بموقفها وعدم خضوعها للترهيب، ومن خلفها "إم تي في" التي، وبتخصصيها هذا المساحة لعازار، تعلن تبنّي قضية مذيعتها ومساندتها انسجاماً مع قناعتها بوجوب اللجوء إلى القضاء نظراً لأنها "لا تهوى المعارك الوهمية"، معتبرة أن المطلوب أن تُنصف عازار كامرأة قبل أي شيء، ومن ثم كصحافية تعمل في الشأن العام، كل ما فعلته هو التعبير عن رأيها بإعادة تغريدة، أشعل الحنين لأزمان ولّت إلى غير رجعة".


عازار التي سبق أن أعلنت أنها طلبت من القضاء أن يضع يده على موضوع الدعوى المقدمة ضدّها من قبل اللواء المتقاعد جميل السيد، باعتبار أن الموضوع بات يمسّ شخصها والشتائم (الموجهة من قبل السيد ونجله) طالت كرامتها وشرفها، أبدت خلال حديثها في مقابلة برنامج "هيدا حكي" استهجانها من تحويل الخلاف السياسي مع امرأة إلى قضية شرف انحدرت لمستوى المسّ بالاعراض والتعاطي بذكورية مقيتة، مكررة أكثر من مرة أنّ الترهيب والتخويف، مهما اختلفت أساليبه، لن يعيدنا إلى مرحلة القمع، وما فعله جميل السيد يعكس انه ما زال يعيش في حقبة الوصاية وذهنيتها وأسلوب تعاطيها، كوننا نفترض بداهة أنّ يتحلّى أي شخص ينوي الدخول إلى المجلس النيابي ويعمد إلى خوض غمار السياسة، بروحية وحُسن التعامل مع النقد بكافة أشكاله، لتنحصر ردوده وردات أفعاله بالأسلوب اللائق بشخصية عامة، وبروتوكولات الذوق والأخلاق بدل أساليب الترهيب والوعيد والبذاءة والنيل من الشرف والكرامات.

قضية جيسيكا عازار أتت في الوقت الذي تتعرض فيه الحريات الإعلامية في لبنان إلى ما يُشبه المؤامرة والتواطؤ عليها، الأمر الذي برز في أكثر من مرحلة ومحطة، تكثّفت منذ انطلاقة العهد الجديد، والتي بان من الواضح مدى الجهود التي حاولت تكريس نهج القمع بالملاحقة وكمّ الأفواه وإسكات أي صوت يصدر من الضفة الأخرى، ويُجاهر بنقده للمواقف والشعارات والتصرفات التي يروّج ويبرر لها أصحاب الحلّ والربط، الذين يحلو لهم تحويل السلطة إلى تسلّط، والقوة إلى قمع، ما جرأهم على عدّ أنفاس الصحافيين والإعلاميين وترهيبهم من خلال استدعائهم إلى جلسات التحقيق وجرجرتهم إلى المحاكم، ضمن قضايا شكّل بعضها سابقة لم تحصل منذ نشأة دولة لبنان الحديث، لتأتي قضية جيسكا عازار لتضاف إلى السجل الحافل من التعدي الذي يبدو أنه أصبح نهجاً يُصرّ على النيل من حرية التعبير، بل وحتى التفكير.

لكن الأمر الذي يضعف الأمل والتفاؤل، ويزيد الخوف على مستقبل الحريات، يتمثّل في كون الجهة المدّعية في قضية عازار لطالما تعوّدت على التعاطي مع السياسيين والإعلاميين من ذهنية أمنية صرفة، ليس في تاريخها سوى القمع وليس في جعبتها سوى أدوات العمل المخابراتي والبوليسي.

جميل السيد. هذا الإسم الذي يُعتبر صاحبه من أكثر الأشخاص إشكالية وإثارة للجدل، والمعروف عنه بأنه كان أحد أشدّ الأذرع السورية في لبنان بطشاً، وأبرز عناوين فترة وصايتها "شهرة"، مرشح "مستقل" للانتخابات النيابية، ومعلوم انه مدعوم من "حزب الله"، ما شكّل كابوساً وصدمة لشريحة كبيرة من اللبنانيين، وتحدّياً بالغ العدوانية لكلّ من عانى من تبعات تسلّط النظام السوري وبطشه، ولكل من يحلم بمستقبل واعد ومستقل للبنان، وبالأخص الإعلاميين والصحافيين على وجه التحديد، الذين لطالما كان السيّد يستهدفهم، ويُمارس عليهم شتّى أنواع الضغوط والترهيب والتنكيل، أيّام كان أحد أقوى الرجالات ذوي السلطة والنفوذ في لبنان، ما جعل كثيرين يعتبرونه "العدو الأشرس" للصحافة الحرة والصحافيين. كما أن هناك من قرأ ترشيحه تعبيراً وانعكاساً للنجاحات الميدانية التي حققها نظام بشار الأسد على معارضيه في سوريا، وبأنه سيكون "ممثله" في البرلمان اللبناني.

جميل السيّد الذي لطالما ارتبط اسمه بالتورّط بملاحقة صحافيين، مثل الشهيد سمير قصير وجهاد الزين وراغدة درغام ومي شدياق وعبد الرحمن الراشد، وغيرهم كثر ممن كانوا يعتبرون أن حقبته هي الأسوأ والأكثر ظلامية في تاريخ لبنان، لا يبدو أنه في طور تغيير عاداته، إذ إنه وقبل وصوله للمجلس النيابي عاد إليها بطرق مختلفة مختاراً الشتم والنيل من الكرامة والترهيب عن طريق الانذارات والدعاوى القضائية، حيث ادّعى على جيسيكا عازار بسبب "إعادة تغريدة"! ووجّه بعدها إنذاراً للإعلامية مي شدياق التي سبق له أن ادّعى عليها أمام القضاء أيضاً.

يرى البعض أن جميل السيّد لن يكون أكثر من ظاهرة صوتية وقنبلة دخان موجّهة ضدّ خصوم سوريا ومعارضيها في المجلس النيابي اللبناني، في حين يرى آخرون فيه وسيلة إزعاج ونكد لرئيس مجلس النواب، نبيه بري، خصوصاً أنّ اسم السيد كان قد طُرح في أكثر من مناسبة كمرشّح للمنصب الذي يشغله بري منذ أكثر من 25 عاماً. 

إلا أنه وفي كافة الأحوال، ومهما تباينت الآراء والأهداف والتوقعات، يبقى من المؤكّد أنّ وصول جميل السيّد إلى مجلس النواب، لا يُبشّر بأي خير، ولن يتأتى عنه سوى الضرر للبنان وصورته.. فمَن يجرّب المجرّب لا بدّ أن عقله مُخرّب!