لم يعايدني جاد

عبيدة حنا
الإثنين   2018/12/31
الشانزيليزيه وبابا نويل في البرد.. وخلفه سترات صفر (غيتي)
لا أعرف لماذا أردد في رأسي، منذ فترة، جُملة "العتب يقلّل المقدار". أنا عادة لا أحبّ الأمثال ولا القوافي ولا الحِكَم، ولا أعرف من أين أتيت بجُملة كهذه أصلًا. لكنها تنقذني من مواقف معقدة وكثيرة، خصوصاً أني من النوع الذي تربكه العلاقات الإنسانية عموماً، والعاطفية خصوصاً.

عندما سألتني دينا، إحدى صديقاتي، إن كنت زعلانة أو عتبانة لأن جاد لم يتصل بي عندما عدت من السفر لقضاء عطلة الأعياد، فوجئت بعض الشيء، رغم أنه سؤال عادي. يُسأل لمن يعرفني ويعرف جاد. لكني فوجئت لأن السؤال يتناقض وفكرتي عن الحكي بشكل عام، ويتناقض أيضًا مع فكرة أن العتب يقلل من تقدير/مكانة من يَعتب. هذا يتناقض مع فكرتي عن نفسي، أو على الأقل يناقض رغبتي في أن أكون إنسانًا خفيفًا، لا يفرض نفسه على أحد. ثم إنه يناقض أيضًا وأيضًا ما كتبه رشيد غداة لقائه بهايا: "باسمة/ خفيفة الظلّ/ كأنها عابرة على الدوام/ تتنقل كالنسمة أو كالبسمة أو كراحة البال". أي أن ذلك يتناقض ببساطة مع رغبتي العميقة في أن أكون هايا التي تشبه راحة البال.

أنا في الحقيقة كنت أرغب في الحديث عن أمور الطقس. لكني وجدت نفسي أحكي عن العتب لأني ببساطة أفكر منذ أيام بأن جاد لم يحدثني. لم يتصل بي. لم يرسل لي رسالة. لم يعايدني بمناسبة ولادة يسوع ابن مريم، ولا بمناسبة ولادتي أنا بنت سوسن أيضًا. لم يقل لي الحمدالله على السلامة. لم يطمئن عن أحوالي، ولم يتمنّ لي حياة سعيدة ولا أعيادًا مجيدة. لا شيء على الإطلاق. لكن لا بأس. أنا في الحقيقة كنت أرغب في الحديث عن الطقس. عن علاقتي بالطقس. فقط.

ثم إني فكرت بأن سامية قالت لي منذ أيام قليلة بأن أغاني فيروز تذكرها بي، لأنها تحكي كلامًا بسيطًا وغير مترابط في أغلب الأحيان. لا أعرف إن كان ذلك أمراً جيداً أم سيئاً بعد، لكني في العموم أثق في ذوق سامية، منذ اللحظة الأولى التي أصبحنا فيها صديقتين. أثق في ذوقها في تسريحات الشعر وفي تنسيق الملابس، وأثق أيضًا في ذوقها الأدبي، وفي الحِكَم التي تطلقها عن الحياة والحب والعلاقات.

لذا صدَّقتُ سامية عندما قالت لي أني أكتب كلامًا بسيطًا وغير مترابط. ثم فكرتُ أنها مناسبة جيدة لكي أحكي عن العتب وعن الطقس، وعن الرسائل وعن جاد وعن ممدوح، وعن إميل وعن نيلي وعن رشيد وعن هايا. عن كل شيء دفعة واحدة، وإن بدا ما أكتبه غير مترابط بعض الشيء.

المهم/ الطقس
عندما عدتُ إلى البيت في ليلة من ليالي نيسان الماطرة، أرسلتُ رسالة إلى نيلي. قلت لها بأني ارتبطتُ بجاد. كنا يومها في شهر نيسان، كما قلت. فسألَتني (باستغراب بسيط): لماذا؟ فقلت: لأن الدنيا تمطر. كنتُ جدّية في قولي ذلك، فضحكَت نيلي، وردّت بأنها تأمل ألا يتوقف المطر قريباً. قالت هكذا حرفياً: "انشالله ما تصحى هالدني دغري". لكنه "تردُّد إبريل"، كما يقول الشاعر.

علاقتي بأمور الطقس، غريبة. لا أعرف إن كنت قد ورثتُ ذلك عن أمي، أم أني تأثرتُ بمقدمة إبن خلدون، أم أني جمعتُ الإثنين معًا. فأنا ورثت عن أمي القلب الثقيل في أول الربيع، عندما يكون الهواء لا يزال باردًا، وفي أول الخريف عندما يصير الهواء باردًا في نهاية المطاف. حتى أني أطلق تنهيدة حزن شديد كلّما لامس الهواء البارد أنفي ووجهي وعينيّ في تلك الفترات من السنة.

عموماً، أنا ورثت أشياء كثيرة عن أمي. لون شعرها، ونبرة صوتها، وابتسامتها الخفيفة في أوّل الصباح. أو على الأقل، هذا ما أتمنّاه.

علاقتي بأمور الطقس غريبة. حتى إني أحيانًا أحمّله وزر ما لا يحمل. كأن أقول مثلًا: هذه هي أطباع أهل البرد/ هذه هي أطباع أهل الشمس/ هذا هو طعام أهل الشمس/ هذا من آثار الشمس/ هذا من ثمار الشمس... والتعميم جهل على العموم.

منذ أيام، سمعتُ أحد أصدقائي يقول ممازحًا، أن الباريسيين حرقوا سيارة في الاحتجاحات، ما يعني أن أهل مارسيليا الجنوبية سيحرقون سيارة أيضاً في اليوم التالي. وأنا أنتظر هكذا أخبار مناطرة. إذ إني مارست بعدها هوايتي في تفكيك هكذا جُمل. في التفكير في العلاقة بين أهل باريس، وأهالي المدن الأخرى. بين أهل باريس وأهل الجنوب. بين أهل الشمال وأهل الجنوب. بين أهل الشمس وأهل الغيم. بين أهل الثلج وأهل المطر. وهكذا...

وعلى سيرة الثلج والمطر، كنت أحكي مرّة أمام بُشرى، إحدى صديقاتي الجديدات في مارسيليا عن المطر في الشتاء، فسألتني باستغراب (وهي من النوع الذي يتعجّب كثيرًا): لماذا تربطين دائمًا بين فصل الشتاء والمطر؟ وكان ذلك سؤالًا غريبًا بالنسبة إليّ. إلا أني تنبهت سريعًا (بعد ثوانٍ فقط) إلى أن الشتاء بالنسبة إليها يعني الثلج. لا مطر في شتاء بُشرى، هي الآتية من مدن الثلج لقضاء الشتاء على البحر المتوسط.

ثم إني شردتُ في الفكرة بعض الشيء، ونسيت أن أخبرها عن الشتاء عندنا. لكني أتذكر أني، ومن دون مناسبة، قلتُ أمامها أني أحب تواتر الفصول. لا أعرف كيف استطعتُ أن أترجم جملة كهذه. لكني فعلتها، وفهمت بُشرى ما أقصد، وسعدت بالفكرة جدًا.

فكرتُ حينها أن هذه جُملة نيلي: "أنا أحب تواتر الفصول". وأنا كنت قد تبنَّيتُ هذه الجملة مباشرة بعدما قالتها نيلي أمامي في المرة الأولى. أولاً، لأني أحب كل الفصول فعلًا، ثم إني بذلك سوف أبدو هنية لا أتذمر من أي فصل، ثم إني لن أبدو هكذا إنسانًا عاديًا يحب الفصل كذا، ويفضل كذا على كذا.

أهتم بأمور الطقس، رغم أني لا أتابع الأرصاد. أتعجب كلّما أمطرَت، أو كلما هبّت رياح قوية. ثم إن حديث الطقس وأحواله ينفع لبدء حديث مع صديق قديم مثلًا، أو لاستكمال حديث مربِك. كأن يُقال: برد اليوم/ شوب اليوم... بعدها ستكرج الأحاديث كرجًا...