لبنان مؤنثاً

منال نحاس
الثلاثاء   2018/12/18
أكثر ما لفتني في شوارع برلين، حين زرتها للمرة الأولى تلبيةً لدعوة وُجهت إلى عدد من الصحافيين العرب، هو غلبة النساء. وبدا لي أن أعدادهن تفوق أعداد الرجال: نساء تحث الخطى أو تدوس عجلة الدراجة الهوائية، ترتدي الواحدة منهن الجينز او سروالاً قماشياً، وعلى الظهر حقيبة. 
بعد أيام وفي لقاء وداعي، أسرَّيتُ الى المضيف بملاحظتي وسألته عن كثرة عدد النساء وقلة الرجال. فأجابني: "لا نسمح للرجال بالخروج. نبقيهم في المنزل"، قال ممازحاً وملمّحاً الى حجب النساء في الشرق الذي أتحدر منه. وأضافت زميلته أن التباين بين أعداد الذكور والإناث في بلدها هو إرث ثقيل من الحرب العالمية الثانية. 

ففي الحرب هذه، قضى ملايين من الجنود الألمان (حوالى 5 ملايين). وأثر التباين هذا لا يزال بادياً الى يومنا هذا، بعد أكثر من سبعين عاماً على نهاية الحرب. 

وإثر عودتي الى بيروت، هجم على نظري ما غفلتُ عن ملاحظته الى وقت قريب: غلبة  النساء في المقاهي والمرافق المدينية، سواء قصد المرء دور عرض السينما "الثقافية" أو زار متحفاً أو معرضاً أو توجه الى مقهى محلي أو ينتمي الى شبكة عالمية. وذلك رغم أني سمعتُ قبل سنوات طويلة، ابنة الجيران تروي ضاحكةً ما سمعَته: حصة الذكر من الإناث في لبنان كبيرة، للذكر ست أو سبع نساء، "هلقد بيطلعلو". وقيل أن الكلام هذا هو خلاصة دراسة أو كلام يلوكه الناس في أوقات الفراغ. 
والتباين هذا مرده الى الحرب الأهلية وهجرة الذكور الى الخارج، وبعضهم إلى دول الخليج القريب، لتحصيل لقمة العيش، أو الى كندا والولايات المتحدة، وهذه تسمى "فوق". فتقول شابة عن خطيبها المسافر أن "خيّه سحبو لفوق" بموجب قانون لمّ الشمل طبعاً. 

وفي ألمانيا ساهم نقص الذكور هذا في بروز دور النساء، فكانت مساهمتهن راجحة في إعمار بلادهن بعد الحرب العالمية الثانية وفي توجيه دفة أسرهن، وتبوأت بنات جيل الأمهات هذا ممن حصّلن كفاءة جامعية عليا في الفيزياء أو الطب أو العلوم الانسانية والمولودات في الخمسينات، مراكز في أعلى الهرم. ومنهن أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية طوال أكثر منذ أكثر من عقد، ووزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا فون دير ليين. 

أما في بلادنا، ورغم تغير مكانة المرأة في الأسرة والجامعة (نسبة حاملات الشهادات الجامعية أعلى من نظيرتها في أوساط الرجال)، وولجوها مكان العمل، وهيمنتها على قطاعات في سوق العمل تكاد تمسي "مؤنثة" أو حكراً على النساء، مثل قطاع التعليم.. فإن الهوة في أعلى الهرم بين الذكور والإناث لم تُجسر بعد. 

وفي القطاع المصرفي، كادت النساء أن تحرز المساواة مع الذكور. فنسبة الموظفات في هذا القطاع تبلغ 47% من مجمل الموظفين، بحسب تقرير جمعية المصارف الصادر في 2015. لكن، وعلى ما نبهت "لو كوميرس دو ليفان" (آذار/مارس2017)، فإن حضور النساء يذوي شيئاً فشيئاً لدى الصعود في سلم الوظائف، ويكاد أثرهن يختفي في أعلى الهرم وفي مجالس الإدارة.

وتقرير جمعية المصارف يرسم "بورتريه" موظفات المصارف. فهن شابات (64% من الموظفات دون سن الأربعين)، ومستواهن التعليمي يفوق مستوى زملائهم التعليمي. و84% من الموظفات في القطاع المصرفي هن من حملة شهادة جامعية، في حين أن نسبة الموظفين الذين تابعوا تحصيلاً جامعياً تقتصر على 69%. 

وليس "تأنيث" القطاع المصرفي مؤشراً الى تغير عميق في البنى الاجتماعية، بل يشي بتغير طفيف يُدرج في البنى التقليدية، العناية بالأسرة و"الواجبات الأسرية"، لاحتواء أثره. فالنساء تُستبعد من المراكز القيادية. وترى مجلة "لو كوميرس..." أن ما يجذب النساء إلى العمل في القطاع المصرفي هو ظروف العمل المؤاتية لهن، وفي صدارتها دوامات العمل القصيرة التي تسمح لهن بالعودة الى بيوتهن للعناية بالأطفال والأسرة. ومن عوامل الجذب المصرفية ارتفاع عدد الرواتب الى 16 شهراً، وحيازة تأمين صحي، وتسديد المصرف الأقساط المدرسية. 

وعلى سبيل المثال، في 2012، لاحظ "بنك لبنان والمهجر" أن الدوامات الجديدة والطويلة "ضاغطة" على الموظفات، فصار الدوام أكثر مرونة: إمكان اختيار الموظف(ة) دواماً أقصر "ليتسنى لهن القيام بواجباتهن العائلية"، على قول مسؤول في المصرف هذا. 

ورغم حضور النساء في المرافق العامة والجامعات والشوارع، ما زالت أبواب المناصب القيادية موصدة أمامهن، فيما خلا قطاع التعليم. وشتان بين ألمانيا ولبنان! نعم، النساء أكثر عدداً في دائر الحياة العامة، لكن أياً منهن لم ترأس الجمهورية ولا مجلس النواب ولا الوزراء، وأعداد المرشحات لا يعتد به في الانتخابات البلدية والانتخابات التشريعية. 

وربما الجمهورية اليتيمة التي تُنتخب لرئاستها هي "جمهورية قلب" الأب والزوج، على ما غنى محمد اسكندر. وفي شريط الفيديو، يظهر اسكندر في صورة أب يجيب طلب فتاته "الشغل" بعدما احتفلت للتو بتخرجها من الجامعة، بالغناء: "ما عنا بنات بتتوظف بشهادتها، عنا بنات بتدلل، كل شي بيجي لخدمتها، شغلك قلبي وعاطفتي وحناني... بيكفيكي إنك رئيسة جمهورية قلبي. شيلي الفكرة من بالك أحلالك". 

وحين باشرتُ العمل في موقع الكتروني قبل عقد ونيف تقريباً، كان فريق الصحافيين كله تقريباً من الشابات. وكان دوامهن المسائي يثير فضول بعض الزملاء في القسم الورقي، من جيل عرف الاختلاط في الجامعات والعمل الحزبي، لكنه لم "يستوعب" عمل النساء خارج المنزل في دوام مسائي. وكان واحدهم يسأل ويتساءل عما هن فاعلات في المكاتب ليلاً.