شاطئ كسروان: مشهد صحي

يارا نحلة
الأربعاء   2018/01/24
جمّعت نفاياته أطيافاً من الشعب فرّقتهم السياسة، أو الطبقة (ريشار سمور)
ليس مشهد الشاطئ الغارق بالنفايات سوى نتيجة طبيعية لتراكم نفاياتنا على مدى ثلاث سنوات، مع إستمرار إهمال دولتنا لهذه الأزمة وتعاملها معها على مبدأ "كبّ بالبحر". ومع ذلك، أثار هذا المشهد حنق اللبنانيين وغيظهم، وأخذوا يتشاركون صورته في وسائل التواصل الاجتماعي معربين عن رفضهم وإستنكارهم، وأحياناً صدمتهم. لكن من ماذا؟ هل كنا نظن أن بإمكاننا أن نواصل عيشنا منتجين قمامتنا اليومية، من دون أن نرى لها أثراً؟ من دون أن نشمّ لها رائحة؟

في صيف 2015، تحوّلت شوارع في بيروت بأكملها إلى "مزابل" يصعب للمرء المرور جنبها ولا يلحظها. وحتى لو أشاح بنظره عنها، فإنه لن يفلت من رائحتها. إنتفض الشارع اللبناني يومها بطريقةً لافتة وغير مسبوقة بالنسبة له، وذلك لجهة مدنيته، وعبوره للطوائف وللإنتماءات الحزبية والأيديوليوجية. فقد جمّعت نفاياته أطيافاً من الشعب فرّقتهم السياسة، أو الطبقة، أو المعايير الثقافية والإجتماعية. كما ضمّت إليه أشخاصاً لم يطئوا ساحة "النضال الشارعي" من قبل. فالنفايات هذه كانت دليل حيّ على الأوساخ التي نفرزها خلسةً، ويجب أن تبقى خفية.

وبعد الإحباط الذي تلا حراك العام 2015، وقيام الحكومة بإخلاء الشوارع من النفايات لطمرها في مكانٍ ما بعيداً عن أنظارنا، عدنا إلى ممارسة حياتنا العادية، متظاهرين بأن فضلاتنا تبّخرت بشكلٍ سحري. رمى أهالي بيروت نفاياتهم في البحر أو الجبل أو النهر، وراحوا يتجوّلون في سياراتهم المكيفة مغلقين نوافذها حتى لا تتسرّب إليها الروائح "البعيدة". وإذا ما قام أحدهم برمي زجاجة بيبسي من سيارته، فستنهال عليه ال"tante" التي تقود سيارة أخرى بالشتائم واللعنات. "شو متخلفين" ستزعق، ثمّ تمضي في يوميها، مستهلكةً أكبر كمٍّ من المنتجات، ومخلّفةً ورائها القدر نفسه من النفايات. سيأتي عامل النظافة أو حاجب البناية لكي يصرّفها، وسيتبعه عامل "سوكلين" لإزالتها من الشوارع التي تجوب فيها المدام. ستختفي النفايات من أمام ناظريها، حتى يمرّ "متخلّف" بجانبها ويرميها من نافذته.

لكن هذه المرة، البحر هو من قذف بالنفايات على يابستنا. أرغمنا على الإلتفات والنظر إليها، فصحونا من غفلتنا مصدومين. لا نعرف نفايات من هذه، وإن كانت تعود للرجل المتخلف أم المدام الأنيقة. لا نعلم لأننا نسينا أن نسأل الدولة عما حلّ بملفّ النفايات الذي أمضينا شهوراً في الشارع من أجله. ذكّرنا البحر بأن وزراءنا ونوابنا لا يقومون بعملهم، وبأننا لا نقوم بعملنا في السهر على نفاياتنا. قد يوحي مشهد الشاطئ الذي رأيناه، بالأمراض والتلوّث، لكنه، لشدّة وضوحه، مشهد صحي يقينا الإنزلاق في فخّ الإنكار الذي نبرع فيه.

لكن العنصر "الدخيل" على هذا المشهد، والذي كان بالنتيجة الأكثر بروزاً فيه، هو وجود سامي الجميّل داخل إطار الصورة. وحده الجميّل، من بين آلاف اللبنانيين، شعباً وسياسيين، تنبّه إلى حال شاطئ كسروان، وعبّر عن "المشهد المقزّز الذي يعجز اللسان عنه". "يا عيب الشوم على المسؤولين" أضاف النائب "المتمرّد" الذي يقف على أعتاب الانتخابات النيابية. لم يعترض على عجز الدولة سوى "الصوت المعارض" داخلها، طامحاً بالإنتفاع من إخفاقها. أما المواطن اللبناني، الضحية المباشرة لهذا العجز، فهو يغطّ في نومٍ ثقيل بإنتظار أن يوقظه سامي الجميل.