من "بانكسي" الى "صراحة":تفكيك الواقع الإفتراضي

شادي لويس
الأحد   2017/09/17
تناقلت بعض المواقع الإلكترونية، نهاية الأسبوع الماضي، خبراً عن قيام أجهزة الأمن الفلسطينية بالقبض على فنان الجرافيتي، بانكسي، وكشفها عن هويته الحقيقية لأول مرة. 

لم تكن تلك القصة المفبركة هي الأولى من نوعها، ففي عام 2014، نجح رجل من مدينة بريستول الإنجليزية، يدعى بول هورنر، في انتحال شخصية بانكسي، عبر نشر أخبار مزيفة عن إلقاء القبض عليه في لندن. ولم يكن مفاجئاً أن يكون هورنر وراء نشر القصة المفبركة الأخيرة أيضاً. 

تكشف المحاولات الدؤوبة لهورنر عن الجانب الآخر من لعبة الاختفاء. فبانكسي، الذي يدين بجزء ليس قليل من شهرته لاحتفاظه بمجهولية هويته كغيره من مئات الفنانين والكتاب، الذين اختبؤوا خلف أسماء مستعارة لأغراض عملية أو بغية إضفاء هالة من الغموض على أعمالهم، يقدم لامرئيته كجزء أصيل من إنتاجه الفني المهووس بفكرة المراقبة والإخضاع للعين الفاحصة للسلطة. 
لكن جاذبية التعمية، لا تكتمل سوى بإمكانية الفضح، فبين إخفاء الحقيقة وادعاء كشفها، وبين التخفي خلف شخصية مستعارة وانتحالها للخروج للعلن، تظهر تلك الرغبة العميقة في الجهل بالآخر كما معرفته، والإغواء الذي يحمله التواري ربما أكثر من غواية انكشافه. 

في مارس (آذار) الماضي، نقل تقرير لموقع "بي بي سي"، باللغة العربية، عن مؤسس موقع "صراحة"، زين العابدين توفيق، أن عدد الزيارات لموقعه وصل إلى 92 مليون زيارة شهرية، وأن عدد المتابعين له قد وصل إلى 30 مليون متابع، يأتي في مقدمتهم المصريون بحوالي 15 مليوناً. 

لكن، وإن كان تعليل توفيق لذلك النجاح الاستثنائي لموقعه الذي يتيح للآخرين الإدلاء بآرائهم في صاحب الحساب، دون الكشف عن هويتهم، يعود إلى "توق الناس لمعرفة آراء الآخرين فيهم دون حواجز"، فإن الأمر يبدو ربما أكثر تعقيداً من الفضول. 

يذهب الفيلسوف الألماني، كوري الأصل، بيونغ-تشول هان، في نظريته المتشائمة لرقمنة الواقع، وتماهيه مع العالم الافتراضي، إلى أن نرجسية استعراض الذات، وانتفاء المسافة بينها وبين الأخرين على وسائل التواصل الاجتماعي، لهما أن يدمرا الحيز العام وعلاقاته. فباستعانته بلفظة "الاحترام" الألمانية، التي تعني أيضاً النظر إلى الخلف، أو غضّ البصر بمعنى آخر، فإنه يصل إلى أن علاقات الإحترام تتأسس على مسافة بين الأفراد، "يشكل الاحترام أسس العام والحيز المدني، وعندما يضعف الأول، ينهار معه الثاني". يلفت هان نظرنا إلى أن تلك الحميمية المفرطة، والانكشاف الكثيف للذات على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يقود بالضرورة لتوسيع العام وترسيخه كما نظن، بل تنتهي، بحسبه، إلى نفيه مع تدمير الحيز الخاص أيضاً. 

تمكننا فرادة فكرة هان، من النظر إلى "صراحة"، بوصفه مساحة لإبعاد الأخر المجهول، بغية التواصل معه. وكما أن المسافة هي وسيلة القرب في "صراحة"، فإن الإخفاء هو جوهر المصارحة، كما أن الحقيقة التي تحملها رسائله المجهلة، لا تبدو ممكنه سوى بستر حقيقة أصحابها.

لكن هل حقا يمكننا "صراحة" من الإفلات من كثافة انكشاف الذات في الواقع الافتراضي، ونرجسية استعراضها؟  لا تخلو رسائل "صراحة" من الإطراء لمتلقيها، حتى ولو كانت سلبية، فكون الشخص المجهول بذل جهداً، في الدخول على الموقع، وكتب رسالة للتهجم، فإن ذلك الاهتمام الممزوج بقليل من الجبن يبدو مرضياً جداً. 

ينشر أصحاب حسابات "صراحة"، صوراً للرسائل التي تصلهم، على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، إما تباهياً بالمديح المتضمن فيها، أو تنكيلاً بمن انتقدوهم، بالسخرية من رسائلهم أو الرد عليهم علناً بغضب في أحيان أخرى. 

يعود استعراض الذات من البوابة الخلفية لـ"صراحة"، وتنهار المسافة المفترضة سريعاً، فيما يبدو الفاصل بين المستتر والمعلن، قد تلاشي مرة أخرى. ربما لـ"صراحة" أن يكون ظاهرة عابرة، يدفعها الفضول، أو حنين إلى زمن الخطابات الغرامية مجهولة المصدر، إلا أن ما يكشفه النجاح الاستثنائي للموقع، ليس جاذبية ألعاب الإخفاء والكشف فقط ، بل أيضاً توق إلى عالم  كان يمكن التستر فيه، وحيز عام كان لنا أن نتواصل فيه مع الآخرين من مسافة مريحة.