منتدى الشركات لمكافحة الارهاب: نوايا حسنة.. أقرب الى اليأس

أحمد مغربي
الثلاثاء   2017/07/04
الأرجح أنّ أول ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة الخبر عن إطلاق "منتدى الانترنت العالمي لمكافحة الإرهاب"Global Internet Forum to Counter Terrorism هو مقولة شاعر عصر النهضة دانتي إليجري في مؤلّفه الشهير "الكوميديا الإلهيّة" بأن "الطريق إلى جهنم مرصوف بأصحاب النوايا الحسنة".

ولدى مطالعة أسماء المنتدى، نجد أنها تحديداً "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" و"مايكروسوفت"، ما يبرز غلبة مواقع الـ"سوشال ميديا" على ذلك المنتدى. ويبرز في إعلانها أنها عاقدة العزم على التعاون تقنيّاً لمكافحة الإرهاب، مع تركيز خاص على "المحتوى الإرهابي"!

نعم. الأرجح أنّ كثيراً من النوايا الحسنة توافرت لتجمع شركات عملاقة في المعلوماتية والاتصالات المتطوّر في ذلك المنتدى الذي تظلّله السياسة ومعطياتها بكثافة عبر توجّهه لمكافحة الإرهاب الذي ما زال يستعصي على تحالفات دوليّة كبرى في السياسة والعسكر والثقافة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.

طري في الذهن أنّ عدداً كبيراً من الهجمات الإرهابيّة وجد طريقه ليحصد الأجساد والأرواح، ثم تبيّن أن منفّذيها لم يكونوا غرباء عن مؤسّسات الاستخبارات التي ترفع منذ سنوات أولويّة محاربة الإرهاب، وتعمل بدأب لتنفيذ ذلك. ولم تكن المعلومات ولا المعرفة التقنية هي التي تنقص "وكالة الأمن القومي" الأميركيّة عندما وجّه شابان شيشانينان ضربة "ماراثون بوسطن"، مستخدمين طنجرة ضغط للطهو، لعلها كانت "المفاجأة" الوحيدة للوكالة! وفي معظم الهجمات التي شنّت في أوروبا والولايات المتحدة، لم تكن المعرفة التقنية بالإرهابيّين غائبة، بل كانت متوافرة تماماً في معظم الأحيان. عند استرجاع تلك الهجمات، نجد أن منفّذيها كانوا غالباً معروفين لدى المؤسّسات الأمنيّة والاستخباراتيّة الغربيّة المنكبّة على مكافحة الإرهاب، ومع ذلك فشلت في توقّع الهجمات وإجهاضها.

ما الذي كان مفيداً في توافر المعرفة تقنياً سواء كمجرمين من أصحاب السوابق، أو كإرهابيّين محتملين، أو راغبين في الالتحاق بالأمكنة التي يعرف عمن يقصدها تأثّره بأفكار الإرهاب، كمعسكرات "داعش" و"النصرة" في سوريا؟

لذا، يصعب تجاوز الضحك عند تذكّر أن "فايسبوك" لديها تقنية متطوّرة تماماً في التعرّف على الوجوه في أوضاع مختلفة، بل حتى لو غيّرت في مظهرها. وتسمّى تلك التقنية "التعرّف العميق على الوجه" ("ديب فايس ليرنينغ" Deep Face Learning)، بل ينكب كبار المختصين في "فايسبوك" على تطويرها. ماذا تفيد تلك التقنية التي تستطيع فضح الأفراد، عبر ملاحقة حتى صورهم أثناء عبورهم الطريق أو مرورهم أمام ملهى أو مقصف، كما تنتهك خصوصيتهم بأن تُعرّف عليهم على مواقع الـ"سوشال ميديا" من دون استئذان؟ لم يؤثر عن الفرنسي- المغربي صلاح عبد السلام الذي شارك وخطط لضربة باريس في 13 تشرين ثاني (نوفمبر) 2015، أنّه اهتم بإخفاء معالم وجهه لا في الصور القليلة التي تركها على صفحاته في الـ"سوشال ميديا" ولا عن كاميرات المراقبة المتصلة بالانترنت سواء في فرنسا أو بلجيكا التي قصدها بعد تنفيذ تلك المقتلات الدموية! ماذا كانت لتجدي تقنية "التعرّف العميق على الوجه" في من تملك الأجهزة الأمنية صوراً له في ملفاتها، باعتباره شخصاً من أصحاب الجرائم، بل أنّ سوابقه تتعلّق بالبارات والمقاصف الليليّة؟

حسناً. لنكف عن السخرية قليلاً، على الرغم من أنها فرضت نفسها بنفسها. ولنترك أيضاً التحليل السياسي الذي يقول ألفباؤه إن ظاهرة الإرهاب فائقة التعقيد، وأنها تمتد عميقاً في السياسة والثقافة والاجتماع والتاريخ والدين وغيره، ما يجعل الحديث عن توسّل التقنية لإنهائه أشبه بنكتة بائخة. لنترك تلك الأمور كلها. 

لنعد إلى البيان الذي أعلن ولادة "منتدى الانترنت العالمي لمكافحة الإرهاب". في سطوره، تبدي الشركات الأربعة العملاقة المؤسّسة للمنتدى عزمها على تبادل المعرفة والتقنيات المتصلة بمكافحة المحتوى الإرهابي، مع تشديدها على أهمية "تعلّم الآلات" ("ماشين ليرننغ"  Machine Learning) في التعرّف على "المحتوى الإرهابي". مرّة اخرى، لنترك أسئلة ساخرة من نوع مدى استعداد الشركات لتبادل فعلي لبراءات الاختراع عن التقنيات التي تملكها في ذلك حقل "تعلّم الآلات" الشائك، وهو أمر لا توجد سوابق كافية تدفع للاعتقاد بأنه سيحدث فعليّاً. هل تتنازل "فايسبوك" مثلاً عما طوّرته في تقنية "التعرّف العميق..."، لمصلحة شركات منافسِة، مع ملاحظة أنها تنفق ملايين الدولارات على تلك التقنية؟ 

لنعد إلى "تعلّم الآلات" وعلاقتها بالحروب. هناك درس قاسٍ يأتي من غارات يشتهر عنها أنها تنفذ من قِبَل الطائرات من دون طيّار ("درون" Drone) على "الإرهابيّين" الذين يجري التعرّف إليهم نظريّاً عبر إحصاءات مؤتمتة، هي في القلب من عملية "تعلّم الآلات".

كم أرواح بريئة حصدت؟ ألم يعترف البنتاغون بذلك الخلل صراحة، بل أنه تخلى تدريجيّاً عن وصفه بـ"الضرر الجانبي غير المقصود" Collateral Damage، وهو وصف راج في سياق الحرب على الإرهاب منذ الغارات التي تلت ضربات الإرهاب في 11/9؟ ألم تكن نسبة الخطأ في عملها إلى حدّ أن ضحاياها من الأبرياء صاروا جزءاً من التجييش السياسي لتنظيمات إرهابيّة (خصوصاً في باكستان وأفغانستان واليمن) ضد الغرب؟ ولم يقتصر الأمر على التجربة العملية والفعلية. وحتى قبل أن تتصاعد أعداد الضحايا من أخطاء الـ"درون" المُدارة بواسطة الآلات وتعلّمها وإحصاءاتها، نشرت مجلة "نايتشر" العلميّة مقالاً في العام 2014، حمل عنواناً ملفتاً "الموت بالعنصر الإحصائي "باي" Death by Ρ. للتوضيح، يستخدم العنصر الإحصائي "باي" للحسم في تحويل الأرقام الاحصائيّة إلى خلاصة محدّدة.

وتوضيحاً، عند تجميع المعلومات عن طريقة تصرّف معين، تتراكم الأرقام بشأنه وتحسم بواسطة العنصر "باي" الذي يكون من شأنه تحويل الأرقام إلى نمط معين. بقول آخر، يتولّى العنصر الإحصائي "باي" تحديد ما يكون تصرّفاً إرهابيّاً. ومع توالي موت الأبرياء المدنيّين بضربات الـ"درون"، لفت مقال "نايتشر" إلى أن الآلات الذكيّة التي تدير ضربات الـ"درون"، تتعرّف على النمط الإرهابي عبر تحليل المعطيات بالأرقام، فتكون عناصر الإحصاء كـ"باي" حاسمة، لكنها تتعامل مع شأن إنساني من الواضح أنه يستعصي إذا اقتصر أمر التفكير فيه على الأرقام والـ"باي" والإحصاء!

ومن الواضح أن مسألة التعرّف إلى المحتوى الإرهابي يتصل باللغة وتحليلها، وهو أمر ما زال مستعصيّاً بالنسبة للآلات المؤتمتة. ومن دون نية استعراض التفاصيل الكثيرة عن ذلك الموضوع الذي ما زال مستعصياً منذ بداية الذكاء الاصطناعي على يد البريطاني آلان تورينغ، يكفي التفكير قليلاً في سوابق مماثلة ظهرت في سياق الحرب على الإرهاب. كم مرّة طلبت الحكومات الغربية من مواقع الـ"سوشال ميديا" ملاحقة ما سميّ بـ"المحتوى الإرهابي"؟ كم مرّة أعلنت شركات المعلوماتية والاتصالات (خصوصاً "فايسبوك" و"تويتر") أنها استجابت لتلك الطلبات؟ ما كان الأثر الفعلي لتلك الأمور على "المحتوى الإرهابي"؟

واستطراداً، هل هناك لغة ما يفترض أنها متصلة بذلك النوع من المحتوى؟ إذا كانت العربيّة، فماذا عن لكناتها الكثيرة، بل أساليبها في التعبير وكناياتها ومجازاتها واستعاراتها وتورياتها وغيرها؟ ينطبق الأمر أيضاً على الدين، خصوصاً بعد تكاثر هجمات اليمين الغربي المتطرف على المسلمين في الغرب.

الأرجح أن هناك محيطاً ضخماً تمثّله ظاهرة الإرهاب المعاصر، ما يجعل "منتدى الانترنت العالمي لمكافحة الإرهاب" وحديثه عن التقنيات و"تعلّم الآلات"، أقرب إلى نوايا تستدعي هزّات من الرأس، هي أقرب إلى اليأس!