"جالوت والمعلومات": المستخدم العادي داوود الإنترنت!

غسان رزق
الثلاثاء   2017/07/18
صدر عن "منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة" في قطر أخيراً كتاب "المعلومات وجالوت: المعارك الخفيّة لتجميع بياناتك والسيطرة على عالمك"، من تأليف الأميركي بروس شناير بترجمة من الزميل د. أحمد مغربي. ويلاحظ أن المترجِم أضاف عدداً ضافيّاً من الشروحات التي تساهم في تسهيل فهم الكتاب من قِبَل القارئ العادي حتى لو لم يكن متعمّقاً في الشأن المعلوماتي المعاصر أو متابعاً دقيقاً له. ويشتهر شناير بأنّه ناشط في الدفاع عن الحريات على الإنترنت، ومؤلّف مشهور لعدد من الكتب النقديّة بشأن عصر الشبكات، وضمنها كتاب مكرّس لتعريف الجمهور على تقنيات التشفير  Encryption، وعرضها بطريقة مبسّطة وتطبيقيّة مباشرة.
وفي عرض شكلي، يقع الكتاب في 526 صفحة من الحجم الوسط. ويمتد النص الأساسي فيه على 341 صفحة تشمل المدخل و16 عنواناً عن الموضوعات الأساسيّة فيه، وهي تتوزّع لى أجزائه الرئيسيّة الثلاثة. ويلفت أن هوامش الكتاب تحتل 140 صفحة (وهي أيضاً مطبوعة بحرف أصغر كثيراً من المستخدم في بقية الصفحات)، ما يعني أنها تضم عدداً ضخماً من المراجع بشأن موضوعات الكتاب.

لحظة بين "وانا كراي" واختراق وكالة أنباء قطر 
يجدر التنبّه أيضاً إلى أن الكتاب الأصلي ظهر بالانكليزية في العام 2015، ما يعني أنه كُتِبَ في سياق الزلزال الهائل الذي أطلقته الوثائق المسربّة من خبير المعلوماتيّة الأميركي المنشق إدوارد سنودن. إذ كشفت الوثائق للمرّة الأولى ذلك التجسّس الكوني الشامل الذي تمارسه "وكالة الأمن القومي" الأميركيّة، بالتواطؤ مع عدد من الحكومات الغربيّة (خصوصاً بريطانيا) وشركات عملاقة في المعلوماتية والاتصالات في "وادي السيليكون" الأميركي.

ربما ظهر الكتاب في لحظة ملائمة تماماً على الصعيد الدولي، إذ تصادف أنها كانت قريبة زمنيّاً من ضربة "وانا كراي" التي هزّت الأمن الإلكتروني عالميّاً، كما عزّزت المخاوف بشأن التجسّس الشامل والرقابة الموسّعة التي تمارسها "وكالة الأمن القومي" بالتواطؤ مع الشركات.

واستندت ضربة "واناكراي" إلى ثغرة وجدتها تلك الوكالة في نظام "ويندوز إكس بي" وتسرّبت بطريقة مازالت غامضة، إلى أيدي الإرهاب الإلكتروني. وزاد في قوّة "وانا كراي" أن "مايكروسوفت" لم تعد تهتم بحماية نظام "إكس بي" لأسباب تجاريّة، وهو نموذج عن تداخل الاستخبارات وأموال الشركات وتجاراتها المتنوّعة في عوالم الشبكات المعاصرة بأنواعها كلّها. ولا يهتم كتاب "جالوت والمعلومات" بشيء قدر اهتمامه بتبيان ذلك التداخل وتأثيره على الجمهور الواسع.

وكذلك يمكن القول أن صدور الكتاب المترجَم تصادف مع لحظة مهمّة بالنسبة لقطر أيضاً. إذ تفجّرت أزمة بين الدوحة و4 دول خليجيّة وعربيّة، بعد تعرّض الموقع الشبكي لـ"وكالة الأنباء القطرية" لاختراق إلكتروني استهدف نشر تصريحات مفبركة وضعها المخترقون على ذلك الموقع. وفي فصول كثيرة، يهتم كتاب "جالوت والمعلومات" بشرح تفاصيل ذلك "العالم السفلي" للانترنت الذي تسوده تجارة غامضة تتداول برامج تخريبيّة لاختراق المواقع وحسابات الأفراد في البنوك وصفحات السوشال ميديا وغيرها.

من هو جالوت الحاضر؟ من أين تأتي قوّته؟
من المستطاع بسط النقاش عن ذلك الكتاب انطلاقاً من عنوانه، بمعنى طرح سؤال عمن يكونه جالوت القرن 21. وربما صار بديهيّاً في الوقت الحاضر أن ترتبط كلمة معلومات بالكومبيوتر والانترنت والشبكات الرقمية بأنواعها كلها، لكن من هو جالوت تلك العوالم المعقّدة؟ لماذا استدعاء صورة جالوت وأسطورته بالارتباط مع المعلوماتية وشبكات الاتصالات المتطوّرة التي باتت ترسم جزءاً كبيراً من الحياة المعاصرة، خصوصاً مع زيادة التداخل بين الافتراضي والفعلي؟ وفي الروايات الدينية، كان جالوت محارباً عملاقاً، بل طاغية جباراً امتلك قوّة كبيرة استخدمها في الهيمنة والسيطرة. ولا يتردّد بروس شنايير المعروف في الغرب بكونه صوتاً ثقافيّاً نقديّاً، في تحديد جالوت القرن 21: إنه ذلك "الكائن" الضخم المركّب من الحكومات (خصوصاً في الدول الغربية الكبرى) وأجهزتها الاستخباراتية من جهة، والشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات من الجهة الاخرى.

ويبيّن شناير أنّ قوّة جالوت الحكومات- الشركات تأتي من المعلومات، وهو ما يظهر في العنوان الفرعي للكتاب الذي تنطق كلماته بوجود معارك خفيّة هدفها التجميع الدؤوب للمعلومات عن أفراد الجمهور كافة، بهدف السيطرة على حياتهم. ولعل إحدى النقاط المثيرة تماماً في الكتاب، هي قدرة شناير على أن يأخذ بيد القارئ ليعبر به المتاهة المتشابكة التي تربط بين المعلومات التي تتدفق من النشاط اليومي العادي للأفراد العاديّين من جهة، والطرق الملتويّة التي تستعملها شركات المعلوماتية والاتصالات في الاتجار الواسع بتلك المعلومات اليوميّة العاديّة تماماً!

ويقدّم مثلاً عن ذلك عبر لفت النظر إلى ممارسات يوميّة شائعة في الـ"سوشال ميديا". ويحث على التفكير في أمور معروفة للجميع، لكنها صارت مستقرة إلى حدّ أن قلّة هي التي تمعن النظر والتفكير فيها. أليس معروفاً للجميع أن "فايسبوك" يلاحق كل فرد منا في المواقع كلها عبر زر "لايك" (سواء دخلت إلى حسابك على "فايسبوك" أم لا). ويتابعك "غوغل" في كل موقع يحتوي على زر "غوغل+" (Google+) أو يستعمل أداة التحليل الإحصائي "غوغل آناليتكس" (Google Analytics)، لقياس حركة الزوار عليه"؟ كمّ مرّة فكّرنا في الإملاءات المترتبة على تلك الأمور، وهي مجرد قطرة في بحر التتبع اللصيق لحركة الأفراد على الإنترنت.

الاستخبارات لا تكتفي بمعلومات الشركات
يضاف إلى تجارة الشركات بالمعلومات والبيانات، ما تحقّقه المؤسّسات الاستخباراتيّة بالتوصّل إلى فرض رقابة موسعة غير مسبوقة تاريخيّاً على الأفراد والشعوب. وبرهنت الوثائق التي سرّبها سنودن عن ذلك الأمر بطريقة لم تعد خافية على الجمهور الواسع.

وإذا كانت الشركات تحصل على سيول المعلومات من مواقعها (كتلك المخصّصة للـ"سوشال ميديا" والترفيه والألعاب الإلكترونيّة وغيرها)، تحصل الحكومات والاستخبارات على المعلومات بطرق أشد قسوة وخفاء. إذ تتدخل في تركيب الأجهزة التي يستخدمها الجمهور (نعم. بداية من الكومبيوتر ومروراً بالهواتف الذكية، وليس انتهاءً بالساعة الإلكترونية والسوار الذكي وغيرها)، فتفرض فيها مكوّنات تحوّلها أدوات تتجسّس تعمل على مدار الساعة. وكذلك تفرض الاستخبارات على الشركات إمدادها بالمعلومات عبر طرق متنوّعة، تمتد من التعاون الطوعي إلى استخدام أدوات قانونيّة وتشريعيّة متنوّعة. ومن المآسي التي يلاحظها الكتاب أن اللجوء إلى القوانين يبدو متشابهاً بين النظم الديمقراطية والقمعيّة، وهو من الأمور التي أثارت نقاشات متشابكة عقب انكشافها في وثائق سنودن.

وإذ تذكر الروايات الدينيّة أن خلاص البشر من طغيان العملاق جالوت جرى على يد داوود عندما استطاع ذلك الفتى الضئيل القامة بمقلاعه الصغير أن يصيب العملاق بحجر فوضع حدّاً لطغيانه وسيطرته على الشعوب. إذاً، على قارئ كتاب شنايير أن يستعد لمفاجأة أولى: إنه هو (القارئ العادي، وبمعنى أيضاً أنه المستخدم العادي للانترنت والخليوي) مدعو لأن يكون داوود القرن 21!

واستطراداً، يرى شناير أن المقلاع الداووي المنشود إنما يتمثّل في انخراط الأفراد في الدفاع عن حرياتهم وخصوصيّاتهم على الشبكة، بداية من تعلّم تقنيات التشفير وتطبيقها على بياناتهم ومعلوماتهم، ووصولاً إلى خوض معارك سياسيّة وقانونيّة لحماية الحريّة والخصوصيّة في الشبكات كلّها، من الشبكة العنكبوتيّة الدوليّة إلى شبكات الاتصالات الخليويّة وغيرها. ويشدّد على أنّ ذلك المقلاع يجب أن يصيب الشركات العملاقة والحكومات سويّة، مع التشديد على أنّه لا يدعو إلى موقف سلبي من التقنيات التي تطوّرها الشركات والحكومات، بل على العكس تماماً يدعو إلى أوسع انخراط في التفاعل مع الجهتين للتوصّل إلى مجتمع يستطيع الأفراد فيه استخدام التقنيات المتطوّرة، مع حماية حريّتهم وخصوصيّاتهم.