في الموبايل: أدب البَرق وإخباريات الخطف

شريف الشافعي
السبت   2017/07/01
وفرت "ميديا الموبايل" طقساً أكثر حميمية في التعاطي مع الأدب الرقمي (غيتي)
تحكم "ميديا الموبايل" ضوابط تفرض إرادتها على المادة المبثوثة عبر الهواتف النقالة وأجهزة التابلت، أبرزها صغر شاشة العرض، الأمر الذي يرسم مساراً لتغيرات نوعية، مضمونية وشكلية، في المحتوى المعروض، سواء كان إعلاماً أو إبداعاً أدبياً وفنياً. ضمن منظومة "الأدب الإلكتروني"، بوصفه نتاج البيئة الرقمية، والحبكة المعلوماتية، والطبيعة الحركية، والخيال التفاعلي، تأتي "ميديا الموبايل" لتعيد ترسيم خرائط هذا النسق الأدبي الوليد، وفق معطيات جديدة.


هناك مقاطع شعرية صوتية مكثفة، من بضع ثوانٍ، تُستغل تجارياً كنغمات للجوال، شأنها شأن الأدعية والألحان ومقاطع الأغنيات، كما ظهرت قصائد وقصص ذات بنية شديدة الخصوصية، تلائم وسيلة العرض، وتلاحق أجيالها المتطورة. أيضاً، صار لروايات الهاتف الجوال موقع بارز في خريطة الـ"بيست سيلر" العالمية، وهي أعمال بسيطة، شعبية، مسرودة بصيغة حكائية، ولغة غير نخبوية.

إلى ذلك، وفرت "ميديا الموبايل" طقساً أكثر حميمية في التعاطي مع الأدب الرقمي. فمن جهة؛ يعد الهاتف أقرب إلى يد مستعمله وقلبه، من الحاسوب التقليدي، فهو الحاسة السادسة، والصديق الملازم. ومن جهة أخرى؛ أتاحت "شاشات اللمس" مزيداً من الاستشعار المباشر للنصوص، ودفئاً إنسانياً افتراضياً كان مفقوداً من قبل، فضلاً عن زيادة الخواص التفاعلية مع المحتوى.

شعراء عرب، كبار وراسخون، انتقلوا من حيز النشر الورقي إلى الأدب الإلكتروني، وبدت تجليات إبداعاتهم الأخيرة أكثر انسجاماً وتوافقاً مع "ميديا الموبايل"، فها هو الشاعر العراقي صلاح فائق، المقيم في الفيلبين، يخوض تجربة "قصائد السطر الواحد"، بما فيها من حركية وتراسل حواس واصطياد ذائقة المتلقي المتفاعل، بومضات البرق الشبكية الملموسة.

هذا الاجتذاب الحيوي، في فضاء فائق الشعري، تضيؤه تقنيات شعرية موائمة، من أبرز آلياتها: الغرائبية، وكشف حجب الطبيعة لتتجلى قوانينها غير المألوفة، وعلاقاتها المسكوت عنها. يقول: "تمساح رصين/ يتطلع إلى عازف كلارنيت/ يقف في قارب".

كما تتجلى الحركية بأقصى طاقاتها في السطر الشعري الوامض لدى فائق، فالقصيدة عبارة عن كبسولة مضغوطة، تتسع لانفجارات بحجم الكون: "بعيداً تهيمُ اﻷمواجُ/ ناسيةً هديرها". ويتسع المضمار الشعري لدى فائق لما هو أبعد من سرعة الخيال ذاته، كما في قوله: "حصانٌ يشتري علبة سجائر/ من مهرّبٍ كان معي في سجن".

من جهته، اتجه الشاعر اللبناني وديع سعادة، المقيم في أستراليا، إلى نشر أعماله كلها رقمياً، وبتقنيات صوتية وموسيقية أيضاً، كما صار يلجأ خلال الشهور الأخيرة إلى كتابة وانتقاء مقاطع بالغة الاختزال، للتفاعل اليومي مع قرائه ومتابعيه عبر الإنترنت، ومعظمهم من مستخدمي الهواتف النقالة.


"الموتى استراحوا، ولكن كيف يستريح الأحياء؟"، هو أحدث نصوص سعادة "المكتملة"، رغم تكثيفها الشديد، على صفحته الشخصية في "فايسبوك". وهي مثال للكيفية التي تتجاوز بها القصيدة مفارقتها الأولية، إلى فضاء التحليق الشعري اللامتناهي.

وثمة نزعة تأملية، لا تطغى على القصيدة ولا تسحبها إلى خانة الذهنية، تسم قصائد سعادة "السطرية"، كما في منشوره الأحدث "ريش في الريح"، وتبقى للومضة دائماً طزاجتها القادرة على اجتذاب مخيلة المتلقي بوميض الدهشة:: "لا تطأْ على ظلّ/ إنه نظرة نائمة"، كما يقول في نص آخر خاطف: "لا أخال الأرض محمولة/ إلا بكثافة الآهات".

أنماط شعرية أخرى تشكلت داخل عباءة الإبداع الرقمي، تتسق أكثر مع "ميديا الموبايل"، منها "حركة الراديو البصري الشعرية"، وهي قصائد رقمية "معدلة وراثياً" بتعبير العراقي أسعد الجبوري، حيث الشعر تجربة غير نمطية من القلق اللغوي، وتكثيف شديد من أجل التحرك ضد الترهلات المرافقة لقصيدة النثر.

النص الشعري الرقمي، هنا، طاقة بصرية على شاشة الموبايل، تجتذب القارئ بالصورة المشحونة بالإشارات والدلائل، لحثه على إعادة صياغة الأصوات والرموز في حقول بصرية. أي أنها ثيمة تراهن على تحويل الراديو الصوتي الموحش إلى راديو بصري ناطق وتصويري "وكان القمرُ هناك/ يهدرُ صورته الغبارية الحرّة/ في الزمن".

أيضاً، يتسق نمط "النانو" الشعري مع "ميديا الموبايل"، وهي قصيدة بالغة الاختزال يصفها الجبوري بـ"الطفل الشعري الضالّ، الذي خرج من رحم اللغة، ليؤلف شخصيته المستقلة من دون البحث عن شجرة العائلة..، هذا الشعر يكثف ذاته بذاته". كذلك، هناك القصيدة التلغرافية، التي يسميها السوري مصطفى سعيد "نصوص الومضة"، وهي لها خصائص البرقيات المختزلة، والبرق الخاطف: "رفع يده/ سحب السماء واقعاً".

وإذا كانت نصوص شعرية قد تكيفت مضمونياً وشكلياً لتلائم واجهة الموبايل، فإن نصوصاً شعرية أخرى قد صارت "موبايلية فعلاً"، وفق اصطلاح استخدمه بعض النقاد هو "شعرية الموبايل". من هؤلاء، الناقد السوري إبراهيم محمود، الذي يذهب إلى أن "الموبايل" يمتلك المباغتة، مثله مثل ما هو شعري، من خلال تقنية الاختزال ومفاجأة التوميض وبث الرسائل، وقدرته على صوغ عالم داخل عالم.

أما المحتوى الإعلامي في "ميديا الموبايل"، فله سمات تميزه بطبيعة الحال، الأمر الذي دعا إعلاميين بارزين، منهم مجدي الجلاد، إلى وصف "ميديا الموبايل" بأنها "ثورة الحاضر وطريق المستقبل"، اتكاء على أرقام حديثة تشير إلى أن قرابة 75% من متابعي الميديا يتواصلون مع الأخبار والوقائع العالمية عبر "الموبايل".

ولا يكاد يمر يوم من غير الإفصاح عن آليات أكثر تطوراً في ميديا الموبايل، إذ صار بإمكان الهاتف التحول إلى وسيلة إعلامية متكاملة، ليس فقط في الصحافة ونقل الأخبار، لكن أيضاً في الأفلام الفيديوية والدراما والفوتوغرافيا وفنون ذات صلة. كما دعمت تقنيات الجيل الرابع للهاتف المحمول ميديا الموبايل بامتياز، ومنها: سرعة التفاعل مع الإنترنت، وزيادة معدلات الأمان في نقل المعلومات، وسهولة التنقل بين شبكات غير متجانسة، وغيرها.

ومن تجليات ميديا الموبايل إمكانية البث التليفزيوني، المباشر والمسجل، الأمر الذي يفتح المجال واسعًا أمام فنون متعددة، ذات طبيعة درامية، وغيرها، بمرونة وحميمية لا تتوفران في أجهزة الكمبيوتر العادية. وتتيح ميديا الموبايل، في هذا الصدد، وفق دراسة للباحثة المصرية فاطمة فايز: الشخصنة، والتفاعلية، والآنية أو الحالية، والاستقلالية في التتبع والمشاهدة.

أما أبرز انعكاسات ميديا الموبايل على طبيعة المحتوى الإعلامي ذاته، من الوجهة الانتقائية، فقد أثبتت الممارسة العملية في الواقع المصري، والعربي عموماً، أن الاهتمام الأكبر من المتلقي ينصب على الأخبار (الرسائل الإخبارية السريعة الخاطفة، بإخراج جذاب، وأسلوب تشويقي)، والمتابعات الرياضية، والألعاب التفاعلية، والمواد الدرامية (على رأسها الحلقات التمثيلية، والأفلام)، والبرامج الساخرة والمضحكة.

وبعد أن كان إنتاج مواد وبرامج للنشر الرقمي عبر الإنترنت مجرد خطوة لفتح الطريق أمام الإنتاج التليفزيوني الفضائي (باسم يوسف،..)، صارت "ميديا الموبايل" كفيلة باستقطاب مختصين ومبدعين لإنتاج محتويات درامية وإعلامية وإعلانية كذلك، تقف عند حد مخاطبة المتلقي من خلال جواله، وتلقى النجاح والرواج المأمولين.