الإرهاب الأبيض والإرهاب الأسود

شادي لويس
السبت   2017/06/24
"هجوم مسجد فينسبري بارك يثبت أن الإرهاب لا دين له"، هو عنوان افتتاحية جريدة "إندبندنت" البريطانية في الصباح التالي للهجوم. لكن حسن النوايا المتضمن في عنوان الجريدة أتى متأخراً جداً، لأنه ما زال يشي بحُكمه السلبي، أي نفي علاقة الدين بالإرهاب، بحاجة تلك القطعية إلى الإثبات.


المدهش في الأمر أن مصطلح الإرهاب الذي بدأ استخدامه كما هو اليوم، أثناء حكم اليعاقبة، بعد الثورة الفرنسية، بتدشين "عهد الإرهاب" كسياسة للجمهورية الفرنسية الوليدة، وتم توظيفه للمرة الأولى في العصر الحديث، من قبل جماعات مناوئة للسلطة، مع تأسيس جماعة "الأخوان الجمهوريين الإيرلنديين" العام 1858، والتي استهدفت بعملياتها إنجلترا تحديداً، كان لايزال في حاجة لإثبات لا دينيته، وفِي بريطانيا على الأخص والتي شهدت عقوداً هيمن عليها شبح مئات من الهجمات الإرهابية التي شنها الجيش الجمهوري الإيرلندي، وعشرات من المنظمات المسلحة الإيرلندية الأصغر سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية.

والحال أن التغطية الإعلامية لهجوم فينسبري بارك، تعرضت للكثير من النقد بعد الساعات الأولى من الهجوم، فاتهمت وسائل الإعلام بالتلكؤ في نقل الأخبار، والتأخير في تخصيص بث حي للأحداث كما هي العادة في الحوادث المشابهة، فضلاً عن تعمد عدم وصف الهجوم بالإرهابي، قبل أن يتدارك الساسة ووسائل الإعلام أسباب تلك الانتقادات بسرعة، فأعلنت الشرطة البريطانية في الصباح التالي بأنها تتعامل مع الهجوم بوصفه اعتداء إرهابياً محتملاً، وعادت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لتصفه بـ"الهجوم الإرهابي" بعدما كانت قد وصفته قبلها بساعات بـ"الإعتداء الرهيب"، واحتاج الأمر من موقع "بي بي سي" العربي أكثر من 12 ساعة لتدشين بثه الحي للحدث.

وفِي اليوم التالي للهجوم، ومع إعلان إدارة المسجد عن استيائها الشديد من التغطية الإعلامية للأحداث، عقدت وسائل الإعلام البريطانية المقارنات بين تغطيتها للهجوم الأخير وبين تغطية هجمتي ويسمنستر ولندن بريدج، مستعينة بآراء خبراء الإعلام والقانون، الذين جزموا باتساق التغطية الإعلامية، والتزامها بالقواعد المهنية، فيما عزوا تحفظ الإعلام على وصف مرتكب هجوم فينسبري بارك بالإرهابي، على عكس مرتكبي الهجومين الأخيرين، إلى حقيقة أن مرتكب الحادث الأخير هو الوحيد الذي قبض عليه حياً، وبالتالي سيخضع للمحاكمة، ما يفرض قيوداً قانونية محددة على تعامل وسائل الإعلام مع الحادث.

وهكذا، لم تعد طبيعة الهجوم محل جدل، فمع زيارة ماي للمسجد، وكذلك زعيم حزب العمال جيريمي كوربين، والأمير تشارلز ناقلاً تعازي الملكة وتضامنها، وخروج المئات من البريطانيين للتظاهر في موقع الاعتداء معلنين عن إدانتهم للإرهاب ودعمهم لمواطنيهم المسلمين، بات يشار للاعتداء بوصفه عملاً إرهابياً بكل وضوح. إلا أن تعريف الاعتداء بالإرهابي لا يبدو كافياً لإنصاف الضحايا، لأن الإرهاب قد لا يكون واحداً، فربما هنالك إرهاب أسود وإرهاب آخر أبيض!

أشارت جريدة "دايلي ميل"، في عنوان تغطيتها للهجوم، إلى أنه وقع "أمام مسجد داعية الكراهية الشيخ أبو حمزة". لا تكتفي الجريدة هنا بتضمين تبرير للهجوم، بل تضع لوماً على الضحايا بلا شك، فدعاة الكراهية هنا هم القتيل والمصابون من رواد المسجد، لا المعتدي الذي تشير إليه في العنوان نفسه بتوصيف شديد الحياد "سائق شاحنة بيضاء". أما جريدة "ميترو" اللندنية المجانية فأشارت في الصباح نفسه للاعتداء بأنه "هجوم انتقامي"، وهو توصيف لا تجافيه الحقيقة، لكنه مع ذلك لا يخفي أمرين، فهو تبرير ضمني للهجوم أولاً، وتأطير له في سياق رد الفعل الذي لا يلام عليه إلا أصحاب الفعل، قبل أن تحيل "ميترو" قارئها إلى هجومي ويسمنستر ولندن بريدج، للوم مرتكبيهما على هجوم فينسبري بارك أيضاً.

من جهتها، خرجت  صحيفة "تايمز" بدورها لتصف منفذ الهجوم بأنه "عاطل بلا ارتباطات تنظيمية، وهو أب لأربعة أطفال ويعاني من اضطرابات نفسية بحسب ما تقول أسرته". هنا يبدو المهاجم فرداً، لا تدفعه أيديولوجيا أو تنظيم، على عكس غيره من مرتكبي الإرهاب الأسود، يظل الإرهابي الأبيض بشراً جديراً بالتعاطف ربما، فهو أب، ويعاني البطالة، ويصارع مرضه النفسي. لا يلقى بمسؤولية الإرهاب الأبيض إلا على مرتكبيه وحدهم، وليس على مجتمعاتهم بثقافتها وأديانها.

إذاً، وبموازاة الاكتشاف المفاجئ بأن الإرهاب لا دين له، فإن لوم الأفراد على "الإرهاب الأبيض" يتجاور مع تبرير "إرهابهم" بالخلل النفسي، على عكس مرتكبي الإرهاب الأسود من الأسوياء عقلياً، والذين لا نسمع شيئاً كثيراً عن أطفالهم وعددهم.

تعود "دايلي ميل" في عنوان آخر، لتحصر توصيفها للمعتدي في هيئته: "رجل حليق الذقن". تستخدم الجريدة مفردة ترجمتها الحرفية للعربية هي "حليق بنظافة"، لتضع قارئها أمام لعبة للتداعي غير الواعي، فالمعتدي هنا يتجرد من كل شيء ويصبخ بلا إيديولوجيا أو كراهية، بعكس الضحايا بالطبع، وبلا ماض أو أي شيء آخر يستحق الإدانة أو التعاطف، باستثناء وجهه الحليق، ونظافة هيئته. علماً أن تفريغ الإرهابي الأبيض من المضمون، لا ينزع عن هيئته المعنى، فالإشارة للذقن الحليق، لا تحيل إلا إلى صور الإرهاب الأسود، ومرتكبيه من أصحاب اللحى الشعثاء، وقذارتهم.

لا خلاف في وسائل الإعلام البريطانية اليوم على طبيعة الإعتداء على مسجد "فينسبري بارك"، فهو بلا شك هجوم إرهابي. لكنه إرهاب أبيض ربما يلام عليه ضحاياه، من أتباع دعاة الكراهية، ويبرر ضمناً بوصفه انتقاماً. أي أنه إرهاب يرتكبه أفراد، لا مجتمعات أو ثقافات وأديان، مرتكبوه هم في المحصلة النهائية بشر، لا ملائكة ولا شياطين، بدافع وحيد غالباً هو البطالة والمرض العقلي، بينما تبدو هيئتهم مألوفة ونظيفة، ولا تشبه في أي شيء أصحاب الإرهاب الأسود، بل وربما تكون نقيضها.