"غرابيب سود".. إدانة لـ"داعش" أم تبرئة للأسد والمالكي؟

بتول خليل
الأحد   2017/06/11
مقاربة العمل في الأساس التزمت المقاييس الربحية التجارية

التصدي لـ"داعش" وكشف حقيقته كتنظيم إرهابي من خلال عمل فني وإعلامي يسعى لإثبات أن قيادات التنظيم وعناصره لا يعدون كونهم حفنة من المجرمين القُساة، ولا يشبهون الأبطال بأي شكل من الأشكال كما يحاولون عكس صورتهم والتسويق لها، شكّلت أبرز الأهداف  التي أعلن عنها القائمون على مسلسل "غرابيب سود"، العمل الدرامي الرمضاني الذي تعرضه قناة "إم بي سي"، بعدما تولّت عملية الإشراف والإنتاج والترويج له بوصفه مبادرة جدّية تسعى لمكافحة أفكار "داعش" عبر فضح ممارسته و أساليبه الدعائية، متعمّدة الغوص في كواليس الحياة اليومية للمجتمع الذي يقع تحت سيطرته والمنظومة التي يحكم من خلالها.

"إم بي سي" التي أعلنت عن إدراكها لدورها وواجبها بالتصدي لـ"داعش" من خلال مجال وسبل عملها، باعتبار أن الإعلام يشكّل جزءاً من الاستراتيجية الهجومية التي تتكامل مع القيادة والمجتمع، أكدت أنّ المجموعة الإعلامية السعودية لن تتردد من هذا المنطلق عن إنتاج عشرات الأعمال المشابهة لـ"غرابيب سود".

كلام "إم بي سي" عن عملها الذي أظهره وكأنه أيقونة تلفزيونية فنية، بدا بعيداً من الواقع لناحية عدم إداركها لحجم الجدل ومستوى المردود السلبي الذي يحيط به، والذي اعتبر نقاد كثيرون بأنه سقطة فنية وأخلاقية تستوجب عدم العمل على إنتاج ما يشبهه مستقبلاً، بعدما عكست حلقات المسلسل ومنذ بداية عرضه حتى الآن، أن المسار الذي سار عليه حَادَ بشكل كلّي وجليّ عن أهداف وفكرته الأساس، التي لاقت ترويجاً استباقياً ضخماً في الصحافة العربية والعالمية.

الانتقادات الكثيرة والاتهامات التي وُجّهت لـ"غرابيب سود" منذ عرض حلقته الاولى، والتي لم تستثنِ كل جوانب العمل، إن كان لناحية الشكل والسيناريو والمضمون لا يبدو أثرها على "إم بي سي"، المُصرّة على رؤيتها التي سوّقت من خلالها للعمل، والتي توحي للمشاهد بأنه مع الوصول للحلقة الأخيرة منه سيكون تنظيم "داعش" قد انتهى وأصبح في خبر كان. في حين أنّ نظرة أولية على العمل واستشراف طبيعته سيقود إلى الإدراك أن مقاربته في الأساس التزمت المقاييس الربحية التجارية، التي تعتمد على التشويق والإثارة و"الأكشن" كعناصر رئيسيّة للجذب والتسويق، ما يُخرج "غرابيب سود" من سياقه التلفزيوني الدرامي الذي كان من الممكن أن يكون له حيثية وسياق آخر للنقاش.

"غرابيب سود" الذي أتى عنوانه من آية من القرآن الكريم، مروراً بمحتواه الذي يُعالج قضية فكرية عقائدية في المقام الأوّل يُستحيل معالجته خارج السياقات الفكرية العقائدية التي تواجهها وتنقضها. ففي حين بدا تقديم الممارسات المشوّهة من خلال الغطاء الديني المتطرف، كان الحرّي تبيان حقيقة منظور الدين، الذي ينادي بالتسامح والاعتدال، دفعاً لفكرة الاسلاموفوبيا التي تتنامى أصلاً عند الكثير من غير المسلمين، الذين وفي حال متابعتهم للفصول المتعاقبة التي أظهرها العمل وعالجها على طريقته، ستؤدي حتماً الى تكريس الفكرة والتصاقها، من خلال كيٍّ عكسي للوعي يوصل نقيض الهدف الذي أرادته "إم بي سي" وعبّرت عنه. إذ إن  المقاربات المشوهة والعنيفة، والتي لا تعدو كونها صادرة من أعداء التنظيم وليست من داخله ولم يُعلن عن تبنيه لها في يوم من الأيام، مثل بيع السبايا والعبيد و"جهاد النكاح"، تم تكريسها وإلقاء الضوء عليها بشكل أساسي من خلال مسار العمل وكأنها حقيقة دامغة.  

وفي حين أن إرهاب التنظيم وإجرامه فاق كل الحدود، من خلال ما عُرف عنه وثبت عليه، من أسلوبه الإرهابي في التفجيرات والإعدام حرقاً والتخلف في فرض مفهوم الشريعة، يأتي "غرابيب سود" ليُظهر نواحٍ تقارب أفلام الرعب والإجرام بأسلوب سينمائي منفصل عن الواقع، وكأن ما في جعبة تنظيم "داعش" ما هو غير كاف لإدانته والتشهير به، لتأتي شيطنة المشيطن أصلاً تطرفاً أخرج الفكرة عن سياقها الهادف إلى محاربة التطرف بالوعي والمنطق، ما قد يخلص بالمشاهد العادي إلى اعتبار إظهار "داعش" بهذه الصورة المبالغ جداً بها أمر خيالي يُستحيل أن يمت إلى الواقع بصلة، كأحد المشاهد الذي يُظهر نساءً كويتيات وخليجيات قطعن المسافات والحدود والبلدان والطرقات الشائكة وهنّ محمولات في شاحنات مقفلة لا تصلح حتى لنقل الحيوانات، ويتبادلن أحاديث مليئة بالشبق والشهوة حول ما ينتظهرن من ملذات "جهاد النكاح" الذي تركن أهلهن وبلادهن لأجله ولأجل الالتحاق بالتنظيم، وهو ما لا يشبه بأي حال من الاحوال ما عرف عن نساء الخليج من الوعي والمحافظة وميلهنّ إلى الرفاهية والدلال.

وفي مشهد آخر، تظهر امرأة كفرت بالمجتمع والتحقت بالتنظيم على خلفية خيانة زوجها لها، بعد أن ضبطته في فراش الزوجية يخونها مع امراة أخرى، فما كان منها الا ان انهالت عليه بالضرب بالمكواة، التي يظهرها المسلسل كأحد الاسلحة الفتاكة الصالحة للقتل، والتي تهرب العشيقة من وجهها وكأن سلاحاً نارياً ينطلق باتجاهها، فيما الزوج لا يقوم بأي حركة بل فقط يستسلم للضرب حتى الموت!!

وفي مشهد ثالث، يظهر أحد الأفراد الذين انتموا للتنظيم وهو يدخل أحد الملاهي الليلية، ليراقب والدته التي ترقص بمجون بين السُكارى، ليقرر قتلها بعد دقائق من مراقبته لها طعناً على المسرح أمام الجميع وحيث فُتوّات المكان يمنعونه بكل بساطة عن أداء فعلته، التي لو كان فيها جزء يسير من الواقعية لكان قام بها في منزلهما وهي نائمة أو حيث لا رقيب ولا مدافع، في حين ينتهي المشهد بالكشف عن أن الإبن "العاق" كان يصرف على خليته الاسلامية مما يجنيه " اهتزاز خصر أمّه"، التي تتبرأ منه  بينما يتوعدها بالقتل لاحقاً لحظة إخراجه من الملهى!

هذه مجرد نماذج من مشاهد يزدحم بمثيلاتها "غرابيب سود"، الذي ذهب به القائمون عليه نحو الاثارة البحتة التي تحمّل "داعش" كل موبقات العالم، في تجاوز واضح عن إظهار الأسلوب الحقيقي الذي يروج به "داعش" لأفكاره، والذي يطرح فكرة برّاقة يتلقفها الجاهلون والمُضَللون والمُغّرر بهم، والتي تعتبر أن الخلافة الإسلامية قد قامت في الأرض وأنه لا طريق إلا "الجهاد" لنصرة الدين ودولته الاسلامية، عدا عن كون أن العمل لم يتطرق إلى سرد قصة نشأة التنظيم وسبب وكيفية التحاق عشرات الآلاف من الرجال والنساء به، ولا إلى كيفية عمل تركيبته الهرمية القيادية، ولا حتى مرجعية قياداته وخلفيات قدراتهم القتالية أو تعليمهم الشرعي، ولا تطرق الى النصوص أو الفتاوى التي تبيح مثلاً قتل أحد القيادات لأحد مقاتليه وهو يتوسل البقاء على قيد الحياة بين يديه، ما أفقده قوة أساسية للعمل التوثيقي كان يمكنه اكتسابها فيما لوعالج المنحى السردي الواقعي للأحداث على ماهيتها.

العمل أثار حفيظة العديد من مؤيدي الثورة السورية، ومعارضي الرئيس السوري بشار الأسد وكذلك رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، إذ اعتبروا أن "غرابيب سود"، وبتسليطه الضوء فقط على جرائم وارتكابات "داعش"، أتى ليغطّي على جرائم الأسد والمالكي من مجازر ومذابح وتطهير عرقي ارتكباها في سوريا والعراق، ما بدا وكأنه تجاهل مقصود لشخصيتين رئيسيتين، لولا إجرامهما لما كان تنظيم "داعش" ولا كان بالإمكان ظهوره إلى الوجود، ما يعدّ سقطة أخرى لناحية عجز العمل عن إبراز وتوثيق ظروف وتراكم المسببات التي أدت الى ظهور التنظيم الإرهابي وانتشاره على جغرافيا المنطقة والعالم.