"المؤشر العربي" بعَين الميديا: الإفتراضي ليس بديلاً

أحمد مغربي
الإثنين   2017/04/03
كانت لفايسبوك خيمة في اعتصام المطالبين بإسقاط علي عبدالله صالح في صنعاء اليمن 2011 (غيتي)
كان "المؤشّر العربي 2016"، على موعده السنوي للمرّة الخامسة، ليقدّم القراءة التي ينهض بها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" لقياس الرأي العام العربي. وقبل الخوض في نقاش المؤشّر من وجهة نظر الميديا الرقميّة تحديداً، ينبغي التربيت على كتف صُنّاع المؤشّر لتنكّبهم مهمة الحصول على معلومات في البلاد العربيّة التي لا شيء فيها أندر من المعلومة، بل أن "القتال" من أجل شفافيّة المعلومة بات جزءاً من صراع خرج بإصرار إلى العلن منذ "الربيع العربي". إذ ليس من صلب الثقافة العربيّة السائدة، الاحتكام إلى العلوم فعليّاً، ولا إلى وسائلها وأدواتها ومؤسّساتها، إلا في ما ندر، كما نرى في "المؤشر العربي". وما زال الميل إلى التنظير وترويج خطاب وخطاب مضاد، هو الرائج عربيّاً، في الفكر والسياسة والثقافة، ولعله ملمح من تعثّر العرب في تجربة الحداثة وما بعدها، أو لعلها عارض.. لمرض أعمق؟

خباء الافتراضي: أين "الربيع العربي"؟
وفي قراءة معمقة، فإن أول ما يلفت عند مطالعة "المؤشّر" أنّه لا يفرد قسماً خاصاً للعالم الافتراضي، رغم أن ظاهرة التصاق العيون بالشاشات الذكية ذات المحتوى الافتراضي، صارت من بداهات الأمور في دنيا العرب. أكثر من ذلك، لا نجد في الملخص التنفيذي للمؤشر معلومة أو رقماً عن العوالم الافتراضيّة في المجتمعات العربيّة، وهذا ما يصعّب العثور على متغيّر في علاقة الناس بالإعلام العام (بما فيه السلطات والمعارضات بأنواعها)، إثر تسرّب الافتراضي إلى الحياة العامة للناس في دول العرب، بل انتشاره في ثناياها كلّها. أكثر من ذلك، تتناول النقطة السابعة من الملخص عينه "الرأي العام والثورات العربيّة"، لكنها لا تشير إلى التفاعل الهائل الذي حدث (وما زال مستمراً، والأرجح أن يبقى كذلك لمستقبل منظور)، بين الحراك السياسي في شوارع "الربيع" وبين التقنيات الرقميّة. ألم يُشَر إلى "ثورة 25 يناير" بأنها "ثورة فايسبوك" وبرز فيها الخبير المعلوماتي وائل غنيم وجهاً معبّراً عنها؟ أليس المحتوى الافتراضي هو من يحدّث العيون الملتصقة بالشاشات عن حقائق ثورة سوريا؟ بل إنّ طفلات سوريّات حرّكن أيديهن في "تويتر" و"يوتيوب" ليوثقن حيواتهن في الحرب واللجوء، فصرن أيقونات إعلاميّة لتلك الثورة وحروبها. أليست الحرب مع "الجيش السوري الإلكتروني" و"الجيش" الذي يساند "داعش" في الانترنت، جزءاً أساسياً من معطيات الرأي العام العربي حاضراً؟

في المقابل، هل يعني ذلك وجوب أن يُفرد للافتراضي، قسم مختص به؟
ربما لا تكون الإجابة سهلة، على الأقل ليس بمثل ما تبدو عليه من بداهة. لماذا؟ لأن العرب ينسون دوماً، عند نقاش مسار المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، أنّهم ما زالوا عند مستوى استهلاك تلك التقنيّات، وبنية مجتمعاتهم ودولهم لم تصل إلى مستوى الانتاج، إلا في استثناءات قليلة يكفي القول أنها...استثناءات. وفي مثال معبّر، يفترض نظريّاً أن مصر والهند دخلتا سويّة في مسار التعهيد ("آوت سورسينغ" Out Sourcing)، منذ العام 2008. ومن دون كلام تقييمي، صارت الهند عملاقاً معلوماتيّاً مذهلاً عالميّاً، بل واحدة من المقرات الكبرى في الصناعة العالمية للتقنيّات الرقمية، فيما يصعب تلّمس حدوث شيء مشابه في مصر. مثلاً، تنتشر الهواتف الخليوية الهنديّة عالميّاً (خصوصاً في إفريقيا)، بل أحدثت الهند خضة في قلب "وادي السيليكون" الأميركي عندما أعلنت أنها قادرة على صنع خليوي لا يزيد ثمنه على خمسة دولارات. وفي المقابل، ما زالت مصر تَعِد نفسها بصُنع هاتف خليويّ مصري مع انتهاء العام 2017، إذا صدقت الأماني!

استطراداً، هناك إمكانية للإشارة إلى "نشاط" عربي ما في تقنيات المعلوماتيّة والاتصالات، خارج الاستهلاك الخالص، على غرار ما تنهض به "مؤسّسة قطر للبحوث"، وصناعة البرامج الماليّة في لبنان، وبرامج الألعاب الإلكترونيّة في مصر والمغرب وتونس، وصناعة التطبيقات الرقميّة للخليوي في دول الخليج العربي والأردن ودول شمال أفريقيا، وما إلى ذلك. ومن دون نية في الاستفاضة، إذا وُضعت تلك النشاطات ضمن الصورة الواسعة لكل نشاط على حدة، تظهر ضآلتها بسهولة. ولعل المثال الأقرب على ذلك هو صناعة التطبيقات التي يصح القول بأنها "ناشطة" عربيّاً، لكنها إذا وضعت ضمن صورة صناعة تتدفق بآلاف التطبيقات على مدار الساعة، فالأرجح أنها ستبدو ضئيلة جداً.

الترفيه الافتراضي: صناعة الرأي العام اليومي
إذاً، ربما لا يكون "المؤشّر العربي" مخطئاً تماماً في عدم تخصيص قسم للعوالم الافتراضيّة في المجتمعات العربيّة، لكنه لا يكون مخطئاً أيضاً إذا فعل ذلك! وفي "المؤشر" يرد الحديث عن الافتراضي ضمن القسم الرابع، المخصّص لتناول المشاركة السياسيّة والمدنيّة (ص202 وص229). وإذ يشمل القسم وسائل متابعة الأخبار، والانخراط في نشاطات مدنيّة أو سياسيّة، يبرز فيه عنوان مخصص للافتراضي هو "التفاعل في المجال الافتراضي" (ص216- ص229). ويتحدث عن تزايد استخدام الإنترنت (أفاد 38% من المستجيبين بأنّهم لا يستخدمون الإنترنت، مقابل 61% قالوا إنّهم يستخدمونها). ويظهر أيضاً إنّ 82% من مستخدمي الإنترنت لديهم حساب في "فايسبوك"، و33% لديهم حساب في "تويتر"، و32% لديهم حسابات في "انستغرام". ويشير إلى أنّ 70% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يستعملونها للحصول على أخبار ومعلومات سياسية، و33% يستخدمونها يوميّاً أكثر من مرة، و68% من أصحاب الحسابات في السوشال ميديا يستخدمونها للتعبير عن الرأي العام في أحداث سياسية، و19% يستخدمونها يومياً أو مرات عديدة في اليوم، و51% يستخدمونها للتفاعل مع قضايا سياسية.

لكن، هناك شيء آخر. هل يمكن إغفال الحضور الوازن للافتراضي في صنع الرأي العام العربي اليومي، أو بالأحرى روافده الأساسيّة في الحياة اليوميّة للناس؟ لنأخذ صناعة الترفيه الافتراضي، في موقع "يوتيوب" مثلاً. هل ثمة مجازفة في القول بأنها مصدر أساسي للثقافة اليوميّة المعاصرة؟ مثلاً، عندما تنال أغنية الفنان المغربي سعد لمجرّد (إنتِ باغيالك واحد...) مئات الملايين من المشاهدات في "يوتيوب"، بل يصبح ذلك جزءاً من النقاش حتى مع مسألة سجنه في فرنسا بسبب التحرش الجنسي، ألا تصح الفكرة مؤشّراً (أو مغذّياً) لثقافة ذكوريّة يوميّة؟ واستطراداً بالنسبة إلى "يوتيوب" تحديداً، والذي يحتل مكانة خاصة كوسيط لثقافة مرئيّة- مسموعة يوميّة: أليس واضحاً أنّه في دول خليجيّة كثيرة مصدر أساسي للثقافة اليوميّة، خصوصاً للشباب العربي؟ في تلك الدول، سجّل "يوتيوب" أرقاماً بلغت مئات الملايين في الساعة، وصار شائعاً القول بأنه بديل للسينما وغيرها من صناعة الترفيه البصري، إذ ظهرت فيه مسلسلات وأفلام، جلّها مصنوع بأيدي الجيل العربي الشاب، وهذا في القلب مما يفترض أن "المؤشر" يهتم بقياسه. لكن المؤكد أن المشتغلين في "المؤشر العربي 2016" بذلوا جهداً لا بد من تهنئتهم عليه، إن في ما يتعلق بالحصول على المعطيات العربية، أو في تقديم مادة ثريّة جديرة بالمتابعة.. على أمل أن يحظى الافتراضي بالمساحة التي يستحق في تقرير العام المقبل.