برمجة الخير على التلفزيون: هذا موتكم، فأين عطيتكم؟

روجيه عوطة
السبت   2017/04/15
#روي_بدو_قلب (تويتر)
من المعلوم أن الميديا المرئية اللبنانية، وفي إثر هوسها برفع نسب متابعتها، تتوجه أكثر فأكثر الى الارتكاز على الشر؛ من حرب، وقتل، وعنف لفظي وفيزيقي على العموم، اذ تجد أنه شدّاد متلقيها، لا سيما حين يخاطب نزوعاتهم بهيئة متعلقة بالجنس والموت. فالشر، هنا، هو نجم المحطات، التي عندما تصوره وتبثه وتخبر عنه، تفعل ذلك رغبةً فيه وفي تزايده، بحيث يوفر لها مادةً كثيفة، تجذب الجمهور، وتصنعه.

وفضلاً عن نشرات الاخبار، يظهر الشر في برامج متعددة، تسمى "سجالية" و"اجتماعية"، وحتى "ترفيهية"، وغالباً ما تبديه بطريقة مواربة، كأنها، وفي حين اعتمادها عليه، تحاول مكافحته، ما يودي الى تغليظه، والى ذيوعها من خلال عرضه.

لكن، وبالتوازي مع هواء الشر التلفزيوني هذا، لا تتوانى القنوات، ومن فترة الى ثانية، عن فتح هوائها لما يدعى "المبادرات الخيرية"، التي قد تكون برامج بذاتها، كـ"من القلب"، وسابقاً "نحنا لبعض"، على "أل بي سي"، و"will you" على الـ"أو تي في"، أو فقرات فيها، كما في "للنشر" (الجديد). ونافل القول أن هذه "المبادرات" تتكاثر في أوقات الأعياد تحديداً، بحيث تسارع تلك القنوات الى مزاحمة بعضها البعض على "فعل الخير"، ومفاده تحقيق آمال وأحلام بعد عرض أوضاع أصحابها العويصة، من قبيل الفقر، والمرض، والفقدان، واليأس، بالإضافة إلى إعانتهم عبر جمع التبرعات لهم.

في هذا المطاف، قدم برنامج "من القلب" مساء الجمعة حلقة روي نخول، الشاب الذي يحتاج الى عملية زرع قلب، يجريها في فرنسا، لكن، أسرته لا يمكنها تحمل تكاليفها. على مدى ساعات قبل بدء الحلقة، روجت قناة "أل بي سي" لمسألة نخول الصحيّة، وسرعان ما تحولت الى حملة بهاشتاغ #روي_بدو_قلب. وما أن بدأت الحلقة، حتى تعرضت تلك المسألة، وبمعية مقدمة البرنامج ريمي درباس، الى استيلاء واضح، وذلك، من جراء إنتاجها التلفزيوني الرتيب والممل.

فطوال الحلقة، لم تتوقف الكاميرا عن رصد دموع روي وعائلته، مثلما لم تتوقف درباس عن الإشارة اليها، كما لو أنها تطالب بها، وفي الوقت نفسه، لم تستطع الإعلامية طرح اي سؤال على روي من دون أن تحثه على التعبير عن ألمه بين كل كلمة وأخرى ينطق بها. إذ أنه يمثل شخصية "المحتاج"، الذي تريده الكاميرا: كائن ضعيف منكسر متذنب اتجاه أمه وأبيه وإخوته، ومثير للشفقة بحيث من الممنوع أن يكون على غير هذه الحال، وإلا ستتدخل درباس باستفهاماتها لتصويبه، وإعادته الى صورته الأصلية.

من حين الى آخر، تعود درباس الى كلفة العملية التي على روي أن يجريها، وفي الوقت نفسه، تعود الكاميرا إلى تصوير طاولة، يجلس عليها مجموعة من إعلاميي "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، وأمامهم عدد من الهواتف يتلقون عبرها الاتصالات من المتفرجين. تدور عجلة التبرعات على الهواء مباشرةً، وغالباً ما يبدو مجمّعوها، أي هؤلاء الإعلاميون، منهمكين بها، فتظهر غزيرة ومستمرة، وهذا، ما قد يشجع المتفرج على المشاركة بالانطلاق من مشاهدته أن غيره قد سبقه الى "فعل الخير".

تنقسم الشاشة بين روي وأفراد أسرته من جهة، الذين عليهم، كلٌ على حدة، ان يثبتوا ألمهم دائماً، لا سيما عبر البكاء والإدماع، ومن جهة أخرى، طاولة مستقبلي التبرعات. وكلما أفرطت الجهة الأولى في إبانة وجعها، تنشط الجهة الثانية. وفي السياق، ومن أجل جذب أكبر عدد من المتبرعين، اعتمدت الحلقة على الفولكلور الوطني، وأول مشاهده، هو جمع الرموز الدينية المسيحية والمسلمة مع بعضها البعض، فالمحتاج هو محتاج كل الطوائف، التي يوحدها، ويجعلها تتفق على النظر اليه.

لا تتراجع الكاميرا عن تصوير روي وجهاً وجسداً، كأنها تبغي التثبت من وضعه الصحي، ولهذا السبب بالذات، تحضر طبيبته الى جانبه، وتتكلم عنه. ذلك، أن البرنامج منوط بتأكيد مرض محتاجه مرة تلو الأخرى، لكي يستضعف متفرجيه، وهذا، حتى لو أظهر فعله كتشكيك في قصة روي، وظنٍّ في حقيقة أمره. كما لو أن البرنامج يرتاب من الشاب، ولذلك، لا تتردد إعلاميته عن إعادة سرد قصته، وتردادها، والتركيز على دموعه ووجعه.

من هنا، يمكن تفسير الموسيقى المرافقة للبرنامج، إذ أنها تشويقية ودرامية على حد سواء، فمن ناحية، يتعامل مشهدها مع روي كشخصٍ يخضع لامتحان يدور حول إثبات مرضه، ومن ناحية اخرى، وحين ينجح في هذا الامتحان، يضحي شخصية مأسوية خالصة. ومن التحقيق المتواصل في أمره إلى إظهاره ببؤس مستمر، ترغب الكاميرا في تقديمه للمتفرجين ككائن المُصاب الذي قد يعترضهم في المقبل من أيامهم: "خذوا هذا موتكم، وهاتوا عطياتكم".

ولكي يتحول المتفرجون الى متبرعين، يتوجب عليهم أن يكتظوا بالمشاعر المضرة، من شفقة وحزن وذنب، وعندها، ومن أجل يتخلصوا منها، يمدون البرنامج بأموالهم: "خذ مالنا، لكن، توقف عن عرض موتنا". ربما لا شطط في القول أن المتبرعين، كما ينتجهم التلفزيون، هم الذين لا يريدون مساعدة غيرهم، إلا انهم يرغبون في إزالة صورته، كموتهم، من أمامهم، والدليل البديهي على ذلك، أن المحتاجين الى الدعم والمساندة حولهم كثر، ولا حاجة إلى ظهورهم على الشاشة لكي يسألونهم العطاء. فانتظار التلفزيون لكي يدلنا على أصحاب الأوضاع الصعبة، من مرضى وفقراء وغيرهم، هو شكل من أشكال إنكار وجودهم من دونه، كأنه هو الذي يصنعهم، أو يحتكر تصنيعهم، قبل أن ينتقل إلى الاستثمار في حالاتهم الفيزيقية والنفسية لتشييد استعراضية خيره حيالهم. فعلياً، أكانت الشاشة لعرض الشر أم لعرض الخير، فهي شاشة مؤذية.