..وأنا لا أرى في الرياضة حياة

عدنان نعوف
الأحد   2017/03/26
علاقة العسكري بالضابط خلال الخدمة الإلزامية أشبه بجلسة رسم. فبإمكان الضابط أن يَصوغ ملامح الفتى موضوعِ لوحته كما يشتهي. نحيلاً أو سميناً؛ عابساً أو باسماً؛ مُجرّداً من الثياب أو مبللاً بها وفيها. ومع الوقت تتحول الجلسة إلى حياة كاملة فلا يعود هناك إمكانية لفعل شيء خارجها، حتى لو توهّم الجندي ذلك من خلال ابتعاده موقتاً عن مكان المرسَم.
الضبّاط يستطيعون رسم كل الحالات والموضوعات، لكنهم يجيدون رسم القتلى؛ سواء الأموات منهم أو من لا يزالون على قيد الحياة. أولئك الذين يستمرون بالركض رغم مقتلهم.

تلك الموهبة في صوغ الأشياء والناس لا يضاهيها سوى صناعة الفضاء البصري في القطعة العسكرية. عالمٌ يعجّ بالرموز والكلمات؛ جماجم وأعلام ومقولات تُسوّرنا كيفما توجّهنا، ليس أقلّها شأناً العبارة الشهيرة لحافظ الأسد "إني أرى في الرياضة حياة" والتي ارتبطت في العقلّية السوريّة بكل ما يجسّد فكرة الرياضة في الواقع، وكانت التعويذة السحرية الجاهزة للإقحام بأي موضعٍ نظراً لم أحيطت به من هالة إبداع، رغم ما يكتنفها فعلياً من بداهة وبساطة تجعل أي شخص قادراً على إنتاج مثلها أو ما يفوقها.

كنت أخطّ على دفتري الخاص بدروس الألغام والمتفجرات عبارةً من أغنية فيروز التي تقول: "يعزّ علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا"، وذلك خلال درسنا النظري، عندما دخلَ الرقيب القاعة ليبلغ الملازم بأن زميلنا "حسن عمر" سقط على وجهه ومات.

حينها رحنا نحن أغرار دورة 102 "الملعونة" نبكي بصمت. كان ذلك الفعل الجماعي الوحيد الذي قمنا به من دون إيعاز عسكري. هل كنا نبكي زميلاً تربطنا به علاقات متفاوتة أم أنه الشعور بالقهر مما نحن فيه؟ قد يكون قاسمنا المشترك الوحيد وقتها هو السؤال الصعب: هل سنغادر يوماً ما هذا المكان؟ وإذا رجعنا إلى بيوتنا وأحيائنا فهل سنعود في توابيت كما سيحدث لـ "حسن"؟

محمولاً على الأكتاف، كان كل واحد منا يسابق الآخر ليلعب هذا الدور، فهي فرصة للارتقاء وسط كل ذلك الحضيض. أثناء اللهو بلعبة "الميت" يستمتع العساكر بحركات "ولدنة" من هذا النوع وبشكل خاص عقب درس توجيه معنوي أو في فائض الوقت المخصص للرياضة.

تعلو القهقهات حينذاك وفي ثناياها سخريةٌ شجاعة من فكرة "الشهيد"؛ الشخصية التي يركّبها مجتمع "المدنيّين" عليك تركيباً دون أن يسأل عن مدى ملاءمتها لك أو قدرتك على أدائها. ولا عجبَ فهو مجتمع مؤلّفٌ من مخرجين مستبدّين بآرائهم تجاه الممثلين، فلا يدركون أو لا يريدون أن يدركوا أن الجندي الذي يموت ليس بالضرورة أن يكون مقتنعاً بفكرة الشهادة من أجل وطنٍ ما. فكيف إذا كانت هوية هذا الوطن تستمدّ وجودها وتتغذى من فِكْر عصابة؟ 

أسئلة لم يتسنَّ لي أن أعرف رأي "حسن عمر" بها مع أنه كان "أبو الدور" أي زميل المرحلة بلُغة المجتمع العسكري. 

خلال دروس الرياضة في بداية دورة الأغرار العام 2010 ركضَ معنا "حسن" دون أية مشكلات. لكنه ومع مرور الوقت ونتيجة إصابته بما كنا نسميه "كسر الجهد" فقد أصبح من المقصرين. وفي حالتنا ويلٌ للمقصرين. يتمُّ تحويلهم إلى مكنسة بشرية لتنظيف الساحات عبر أشكال مختلفة من العقوبات تركّز معظمها على فكرة الالتصاق بالأرض انبطاحاً؛ جسداً وعيوناً وكرامة. هذه الظروف مشابهة ربما لما يحدث للجنود في أي دولة بالعالم، فلماذا التململ؟ نعم هي كذلك لكن هل تزيّنها الشعارات التي تحيط بتدريباتنا؟ 

عقب آخر درس رياضة له بدا على "حسن" ما يشبه علائم احتضار. ليس تعباً جسدياً عادياً كما أدركنا متأخرين، فهو المصاب "بالشقيقة" أو ما يعرف بالصداع النصفي حسبما أسرّ لنا الدكتور إسماعيل؛ "أبو الدور" أيضاً الذي كنا نطلق عليه لقب الطبيب رغم أنه خريج معهد.

ومما عرفناه كذلك أن ما في قلب "حسن" من كمَد كفيلٌ بقتل أعتى الرجال. لقد كانت روحه معلّقة بالخارج. بزوجته التي علمَ بأنها حبلى بابنه الأول دون أن يتمكن من تحصيل إجازة لرؤيتها. توسّل الضبّاط وحاول بشتى الطرق غير أنّ أحداً لم يصغِ لآلامه، مثلما سبق وتمّ تجاهل مطلبه البسيط بالحصول على نظارة طبية بدلاً من تلك التي كُسرت في التدريبات.  

كنا قد تحلّقنا حول قصعات الفطور المكوّن من زيتون وحلاوة، وأديّنا الحركة الدورانية المعتادة مثلما يفعل الهنود الحمر حول النار، لكن مع صوت الزئير في حالتنا، ثم رحنا نتهيأ للذهاب إلى القاعة لحضور درسنا النظري وفقاً للبرنامج. 

في تلك الأثناء لجأ "حسن" إلى الدكتور "إسماعيل" يشكو دواراً وإعياءً. ولأننا ننتقل جرياً منتظماً بين مكان وآخر فقد أشار الملازم على "حسن" بالبقاء في الساحة مخاطباً إياه بالقول: "خلّيك متل الكلب.. هلق بيجي الرقيب بياخدك علمستوصف". 

بعدما تركناه خلفنا ذهبَ "حسن" إلى قريته "زور مغار" الواقعة بين عين العرب (كوباني) وجرابلس. عاد جثةً تمَّ تسليمها لذويه لاحقاً، وطُويَ ملفه خلال أيام تحت بند "قضاء وقدر" بتواطؤ واتفاق بين الضبّاط.

أما نحن فقد واصلنا الركض في الساحات والدوران حول القصعات مع الزئير، فحقّنا الطبيعي في الطعام كان مشروطاً بإصدارنا لصوت الأُسود حتى لو كانت قلوبنا تعوي أو تموء أو... 
بعيداً عن التدريبات كان هناك ما يمثّل نافذة مضيئة في سجن وحدتنا العسكرية الكبير. هي المُناظرة المرتقبة والتي تمثل استراحةً من الجحيم للمجند، على أن يحفظ أقوال بشار الأسد عن ظهر قلب.  ومع أن هذه المناسبة تبدو للوهلة الأولى فاكهة سهلة المنال يتنافس الجميع على اقتناصها، فإنها فعلياً لم تكن كذلك. إذ أن معظم المشاركين بها كان يتم اختيارهم مرغمين خصوصاً عندما يَعلمون أن من لا يحفظ المُقرَّر يُزجّ به في السجن.  

20 آذار 2011. علامات ارتباك لا يستطيع ضبّاط التوجيه السياسي في قيادة القوات الخاصة بـ "القابون" إخفاءها. هناك وضمن المناظرة السنوية المعتادة لاحظَ المجندون الذين تم اختيارهم ليمثّلوا وحداتهم العسكرية أن محتوىً غريباً وغير مفهوم دخل على الدروس، وبات يتخلل عملية "التسميع" حديثٌ عن إشكالاتٍ بدأت تحصل في مدينة درعا، وأنه يجري تداركها بكل حكمة. ضابط آخر تطرّق إلى موضوع الأصابع الإسرائيلية العابثة بأمن الوطن، مُعرّجاً، ودون مبرر، على سرديّة دور الجيش السوري في حرب الخليج الثانية. 

تكررت الأحاديث التي خرجت عن موضوع المناظرة الأساسي، وصولاً إلى إلغاء النّزال النهائي بين المجندين والذي كان من المفترض أن يتباروا خلاله في حفظ أقوال الأسد الإبن.

تمّت إعادتهم على عَجل إلى وحداتهم العسكرية. وهناك أخذ الضبّاط يرسمون واقعاً جديداً يتماشى مع مستجداتٍ ما. لم يَعُد هناك إصرار على الرياضة التي قتلت "حسن". تمَّ استبدال معظمِها بتدريبات يومية على الرمي، واختبارات أسبوعية لمهارات استخدام البنادق. لماذا هذه الثورة المفاجئة في المنهاج التدريبي؟ كنا نتساءل بين بعضنا البعض مستخدمين حركات العيون والفم دون أن نجاهر بالسؤال، فيما يأتينا الجواب وكأنّ للضبّاط موهبة بقراءة الوجوه المتوجّسة. "عليكم أن تتقنوا استخدام السلاح استعداداً لمواجهات قادمة مع الأعداء المتآمرين". أتقنوا قتلهم ففي ذلك حياة.