الإعلام والقضاء.. سَبْق ولعب وجهل وحب

بتول خليل
الإثنين   2017/11/20
أداء الإعلام اللبناني كرّس العلاقة النمطية وعمّق الهوّة بين الإعلام والقضاء (عن المفكرة القانونية)
لم يعد خافياً التعاطي المخزي الذي تمارسه غالبية وسائل الإعلام اللبنانية في تغطيتها لقضايا وأحداث لها أبعاد قانونية وحقوقية وأخرى مرتبطة بقرارات قضائية صادرة عن المحاكم، والتي غالباً ما يطغى عليها أسلوب الخفّة والتسرّع والطيش بحثاً عن الإثارة الفارغة أوالمنافسة مع وسائل إعلامية أخرى لاكتساب وجذب جمهورها، الأمر الذي ضاعف مع الوقت عمق الهوّة بين الإعلام والسلطة القضائية في لبنان، بل وكرّس العلاقة النمطية بين الطرفين مرسياً معادلة انغلاق القضاء على نفسه، مقابل المقاربة الإعلامية الخاطئة والمجحفة في أحيانٍ كثيرة.


هذا الوضع أدخل الإعلام اللبناني والنقاش العام ضمن صيغة التبعية للقوانين وللطبقة السياسية بشكل كامل، إذ إنه وفي ظل شبه غياب المقاربات الجدية والعمل لإنتاج وطرح إشكاليات حقيقية مرتبطة بقضايا حقوقية وقانونية، تُرك هذا الأمر للطبقة السياسية التي استأثرت بالكلام عن القضاء لفترة طويلة في النقاش العام، فيما بدت التغطية الإعلامية للكثير من المحاكمات أو الأحداث سطحية أو موجّهة، عدا عن الجنوح اللافت للإعلام اللبناني نحو القصص الفضائحية وصحافة التلصص والاستعراض الدرامي، وهو ما خصصت له "المفكرة القانونية" عدّة جلسات، على مدى الأسبوع الماضي، لمناقشة ظروف وإشكاليات هذا الواقع، ضمن دورة تدريبية حول الإعلام والقضاء، جمعت مجموعة من الصحافيين والقضاة والعاملين في المحاكم والشأن الحقوقي، من لبنان ومختلف الدول العربية، بهدف تسليط الضوء على مكامن الخلل في العلاقة بين الإعلام والقضاء والتوصّل لسبل تواصل أفضل بين الطرفين، وكذلك ممارسات يمكن أن تسهم بانفتاح القضاء على الإعلام وبالتالي على المجتمع.

المسألة القضائية لا تجذب الجمهور
وفي حين أظهرت النقاشات بين الحاضرين وجود نقاط مشتركة وظروف متشابهة في الدول العربية لناحية العلاقة المأزومة بين الإعلام والقضاء، عكست الحالة اللبنانية في هذا الإطار النظرة المسيّسة تجاه قضايا الشأن العام بمختلف أنواعها، وهو ما علّق عليه سامر غمرون، رئيس وعضو مؤسس في "المفكرة القانونية"، بقوله إنّ "الإعلام اللبناني يبرر اسلوب تعاطيه المجحف مع القضايا الحقوقية والقانونية، من منطلق أن الناس غير معنيين بالشأن القضائي، باعتبار أنه مسألة تقنية وفهمها صعب ولا تجذب الجمهور"، كما أنّ "المسألة القضائية في لبنان لا تخص السياسة، هي مسألة مسيّسة بفعل التدخلات السياسية العديدة، لكنها ليست مسألة سياسية تعني إدارة الشأن العام بشكل أساسي".

هذا الواقع لا يلغي وجود استثناءات قليلة من التعاطي الإعلامي الجاد والمتّزن والمسؤول لناحية مقاربة وتغطية أحداث وموضوعات حقوقية وقانونية بدأت تبرز في الفترة الأخيرة بفعل جهود صحافيين ومراسلين أرادوا كسر النمط السائد والخروج بقصص صحافية تحترم أخلاقيات المهنة، وتعكس وجود ثقافة ومعرفة حقوقية وقانونية لدى معدّ التقرير أو التحقيق أو القصّة، لكنها تبقى مبادارات وحالات فردية لا تشكّل ظاهرة عامة في الإعلام اللبناني. وبالرغم من وجود هذه الاستثناءات، لا تزال النظرة القضائية تجاه التغطية الإعلامية لشؤون القضاء أو لقضايا إنسانية وحقوقية، ترى أن التداول حول قضية معروضة أمام القضاء يعتبر تدخلاً في عمل السلطة القضائية، باعتبار أن "تدخل" الإعلام سوف يؤثّر على القاضي، وسيضعه أمام ضغط لن يسمح له الحكم بالسكينة اللازمة التي يقتضيها عمله، على ما يقول المحامي والعضو المؤسس لـ"المفكرة القانونية"، نزار صاغية، مشيراً إلى أن هذا الأمر ليس إلا واحداً من مجموعة موروثات تقليدية تدفع القضاء لمواجهة الإعلام ولجم الصحافيين عن المساءلة أو فتح نقاش عام أو حتى المحاسبة الإعلامية للقضاء، حيث يجري الحديث في هذه الحالات عن هيبة وكرامة القضاء، التي تستدعي المحاسبة بالأطر الرسمية فقط، ذلك عدا الفهم الضيّق لموجبات التحفّظ، التي تتحول لموجبات صمت، وذلك تكريساً لمعادلة أن الإعلام يمنع عليه النقد طالما أنّ القاضي لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

الصحافة والقضاء: العاطفة مقابل الحياد
هذه النظرة القضائية للعمل الصحافي فسّرها دينيس سالاس، وهو قاض فرنسي وأكاديمي ومؤلف شهير، عمل على التفاعل بين القضاء والمجتمع ويشغل حالياً مناصب بحثية في مختلف المنظمات ذات الصلة بعالم العدالة. وضمن جلسة حول "أهمية علاقة القضاء بالإعلام على ضوء التجربة الفرنسية"، صوّب سالاس على مكامن الخلل في تلك العلاقة، شارحاً أن هناك فرق بين الزمن القضائي والإعلامي، إذ إن وسائل الإعلام تجنح إلى تسريع وتيرة الأمور وتسليط الضوء خصوصاً في بداية فتح التحقيقات حول قضية معينة، تجعلها تنحو نحو اختصار الطريق، بل وتحلّ في بعض الأحيان مكان السلطة القضائية، ما يجعلها تعرقل عمل القضاء وتتيح الفرصة لبعض الأطراف للجوء إليها لتبرئة أنفسهم، وهذا يُعدّ تعارضاً قوياً مع عمل القضاء، حيث يصبح الجمهور هو القاضي في هذه الحال. وانطلاقاً من هذا المنطق نلاحظ التناقض بين الاستخدام الإعلامي والتحقيق الذي يجري بموازاة ذلك في القضاء، وكذلك التعارض بين الشفافية الإعلامية واستقلالية القضاء، وبين السرد الإعلامي والسرد القضائي للمدعي العام وقاضي التحقيق. أما الفرق الأساس فهو يتمثّل بالخيار السردي للصحافي، كونه يتعلق بالعاطفة والانفعالات خصوصاً تجاه الضحّية ضمن منهج سردي انفعالي عاطفي، في حين أن القضاء يبقى على مسافة محايدة ولا ينخرط بانفعالات ومنهجيات تنطلق من المشاعر.

الصحافيون: القضاة والجلادون
كلام سالاس على واقعيته لا يتعارض مع ما يحمله المشهد اللبناني من تجاوزات صارخة في هذا الإطار، والتي عبّرت عنها الصحافية ديانا مقلّد في سياق حديثها عن أخلاقيات الإعلام والمبادىء المتعلقة بتغطية القضايا المعروضة أمام المحاكم، حيث هناك أكثر من شريحة يتعامل معها الصحافي، بينها الناجين والضحايا والقضاة والمحامين والنظم القانونية والمرتكب والمتهم. لكن المشكلة تبدأ، بحسب مقلّد، عندما يقرر الصحافيون لعب دور القضاة والجلادين والمسؤولين عن القيم، ويقاربون المادة الصحافية من هذه الزاوية، متخلين عن دورهم كناقلين للمعلومات وعن واجبهم بوضع القصة في سياقها الصحيح، بل وأكثر من ذلك، يعطي الصحافي لنفسه الحق بالمحاكمة قبل إعطاء الفرصة لعرض القضية من كافة جوانبها، خصوصاً في التغطية المباشرة على الهواء، التي تعدّ أكبر معضلة واجهت الإعلام اللبناني في السنوات الأخيرة، حيث يقع المراسل التلفزيوني تحت وطأة فكرة الإثارة والسبق الصحافي في لحظة الحدث.

وبذلك لا تصبح المعرفة الصحافية كافية، بل هناك المعرفة الحقوقية التي يتوجّب على كل صحافي أن يسعى لاكتسابها. وانطلاقاً من تجربتها الواسعة وخبرتها الطويلة في المجال الصحافي والإعلامي، ترى مقلّد أن الإطلاع على المنظومة الحقوقية والقانونية لم يعد كافياً، بل يجب على الصحافي أن يطّلع ويفهم جوهر العدالة بمعناها الحقوقي العالمي. فالقانون اللبناني مثلاً ينصّ على عدم أحقية المرأة اللبنانية بمنح الجنسية لأولادها إذا تزوجت من رجل غير لبناني، في حين أنّ للحقوق والعدالة قول آخر، الأمر الذي تؤّكدّه أمثلة كثيرة، منها ما يحصل في مصر مؤخراً، حيث هناك جهد لتجريم المثلية الجنسية، وفي حال أقرّ القانون هذا الأمر، فإنّ العدالة تتكلم بلغة أخرى ومناقضة تماماً لهذه المبادىء.

انعدام الثقافة الحقوقية: أولى العقبات
لكن فرص وتحديات الإعلام الملتزم في لبنان تبدو ضئيلة في هذا الإطار، ما يطرح السؤال حول كيفية وصول الصحافي لإدارك معنى العدالة بمفهومها الحقوقي الواسع، في الوقت الذي يفتقر فيه إلى معرفة تركيبة الجسم القضائي وآليات عمل القضاء والقانون.

وضمن جلسة حول أبرز الصعوبات التي تواجه الإعلام في تغطيته الدعاوى القضائية، تقول الصحافية، سعدى علاوه، التي عملت لسنين طويلة في متابعة القضايا الحقوقية المرتبطة بالقضاء:"نحن في لبنان نتخرّج من جامعات كليات الإعلام، التي تفرغ مناهجها من كل ما له علاقة بدور الصحافي بحقوق الإنسان بشكل عام، بالتالي نتخرج كصحافيين، وليس لدينا أي فكرة عن علاقة القضاء أو دور الصحافة بهذا المكان، وبعدها نعمل في مؤسسات لا تُعنى برفع مستوى صحافييها، ولا تهتم بتشكيل وعي أو ثقافة معرفية للصحافيين العاملين لديها"، الأمر الذي تتفق عليه الصحافية، جانين جلخ، بقولها إنّ "التجرؤ على مقاربة موضوعات وقضايا معروضة أمام القضاء وأخرى متعلقة بالقضاء نفسه، تستوجب امتلاك الصحافي ثقافة حقوقية وقضائية واسعة، وإداركه مدى ارتباط الشأن القضائي بالقضايا الاجتماعية والسياسية". لكن هذا ما يستدعي تسليط الضوء على المحاذير التي تدفع كثير من الصحافيين لتجنّب متابعة القضايا المرتبطة بالقضاء، خصوصاً قضايا الفئات المهمشة، إذ لا حصانة تحمي الصحافي في لبنان. ما يجعل الصحافيين، يعملون في ظروف سيئة جداً، إذ ليس هناك من يحمي الصحافي، مقابل حصانة القضاء ونفوذ السياسيين.