فضائح بريطانية: شكراً للصحافة التقليدية!

شادي لويس
السبت   2017/11/11
كشفت الصحافة البريطانية أن وزيرة التنمية الدولية التقت سراً بإسرائيليين، وحوّلت أموالاً مخصصة للإغاثة إلى جيش الاحتلال في الجولان
حين تفجرت قضية هارفي واينستين في هوليوود، بداية الشهر الماضي، لم يكن أحد يتوقع تبعاتها المزلزلة والمدى التي وصلت إليه. فالاتهامات بالاعتداء الجنسي الموجهة للمنتج والمخرج الأميركي، التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، سرعان ما تحولت الى حملة عالمية في وسائل التواصل الاجتماعي، لفضح الاعتداءات الجنسية، ومرتكبيها، جلبت معها المئات من التقارير الصحافية الاستقصائية التي طاولت عدداً من نجوم هوليوود وغيرهم. 
كانت الحملة استثنائية في الطريقة التي عملت بها وسائل الإعلام التقليدية، وبالأخص الصحافة، بالتضافر مع وسائل الميديا الاجتماعية. ففيما كانت الصحافة هي التي كشفت القضية في المقام الأول، فإن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت، عبر هاشتاغ "أنا أيضاً"، نقل القضية الى مستوى أشمل، كاشفة المعاناة اليومية التي تتعرض لها النساء في مختلف المجتمعات حول العالم، أياً كانت طبقاتهم أو خلفياتهم. 

إلا أن الصحافة، ووسائل الإعلام التقليدية، كما اعتمدت على القصص المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي، لطرح نماذج أوسع للاعتداءات الجنسية، فإنها في الوقت ذاته، منحت تلك القصص الكثير من مصداقيتها. 

فالشكوك التي دارت حول قصص الاعتداء الجنسي المنشورة في السوشيال ميديا، بوصفها حملات للتشنيع والانتقام الشخصي وتشويه السمعة، لعبت الصحافة دوراً في تبديدها، عبر فرز تلك القصص، والتحقق منها، وتوثيقها، والدفع بها إلي جمهور أوسع، مشفوعة بالدلائل. كانت لتلك الدينامية التبادلية بين الميديا التقليدية والجديدة، أن تصل بالقضية إلى اقصى مدى. 

أُجبر وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، على الاستقالة، بعدما ورد اسمه في تقارير صحافية، جاء فيها انه كرر لمس ركبة إحدى الصحافيات خلال حفلة عشاء في العام 2002. لكن الأمر لم يقتصر على فالون، الحليف القوي لرئيسة الوزراء في حزب المحافظين والحكومة. فسرعان ما قام حزب العمال بإيقاف عدد من نوابه في البرلمان، ومن ضمنهم أحد وزرائه السابقين في حكومة الظل، بسبب تقارير إعلامية مشابهة، وتبعه حزب المحافظين أيضاً بإيقاف عدد من نوابه وقياداته المتوسطة للسبب نفسه. 

لكن، وقبل أن تهدأ الهزة التي أثارتها إقالة فالون، في الأول من الشهر الجاري، نشرت جريدة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية، بعدها بخمسة أيام، تسريبات "أوراق الجنة"، المتعلقة بملاذات ضريبية، واستغلال ثغرات قانونية للتهرب من الضرائب عبر شركات استثمارية وهمية في الخارج، تورط فيها، بالإضافة إلى الملكة نفسها والأمير تشارلز وآخرين من أفراد العائلة المالكة، عدد من السياسيين والوزراء البريطانيين السابقين، وفنانين وإعلاميين. 

وفيما كانت وسائل الإعلامية البريطانية وغيرها، لا تزال تتصدى لمهمة شاقة، لفحص 13.4 مليون وثيقة من "أوراق الجنة"، فإن تقريراً صحافياً آخر بعدها بيومين، كان كفيلاً بتفجير فضيحة مدوية أخرى. فبعدما كشفت الصحافة البريطانية، أن وزيرة التنمية الدولية، بريتي باتيل، كان قد عقدت عشرات اللقاءات السرية غير المصرح بها، مع مسؤولين إسرائيليين، أثناء إجازة لها في إسرائيل، وعملت على تحويل أموال مخصصة لأعمال الإغاثة لصالح جيش الاحتلال في الجولان ومن دون مشاورة رئيستها، تعاملت حكومة المحافظين مع الأمر بقليل من الحزم، ومن دون إبداء رغبة في اتخاذ أي خطوات أبعد من التوبيخ.

إلا أن كشف الصحافة عن المزيد من التفاصيل الصادمة بشأن القضية، وتورط عدد من قيادات الحزب فيها، في اليوم التالي، دفع الحكومة إلى إرغام باتيل على الاستقالة، مساء الأربعاء، وهو ما يُتوقع أن تتبعه إقالة المزيد من المسؤولين البريطانيين. لكن مسألة الاختراق الإسرائيلي، لم تتوقف هنا. ففي صباح الأربعاء نفسه، أعلنت الشرطة البريطانية فتح تحقيق، بناء على تقرير نشرته مجلة "نيويوركر" عن توظيف هارفي واينستين لعملاء سابقين في الموساد، للتجسس على ضحاياه، ومراقبتهن، وترويعهن لثنيهنّ عن اتهامه علانية. 

وما هي إلا ساعات، حتى خرجت تقارير إعلامية إضافية عن القضية، والكثير من التفاصيل الصادمة، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، إلى الاعتراف بأنه كان صلة الوصل بين واينستين وعملاء الموساد. 

لكن موجة الصدمات، التي بلغت ذروتها هذا الأسبوع، لا تنبئ فقط بشتاء قارص للنخبة السياسية البريطانية، وربما انهيار حكومة المحافظين، الهشة في الأساس. بل ستزعزع أيضاً عدداً من الافتراضات الرائجة عن الميديا التقليدية، والصحافة خصوصاً.

فإلى جانب فضح طبقات من الفساد الأخلاقي والمالي والسياسي، بشكل غير مسبوق، فإن الصحافة التقليدية، التي كان يفترض أن دورها تراجع بالفعل، مع ظهور وسائل الإعلام المسموعة والمرئية الأوسع انتشاراً، وكان من المتوقع أن نهايتها قد حانت، مع صعود وسائل التواصل الاجتماعية، ووسائل الإعلام الرقمي، تبدو اليوم أكثر تأثيراً وفاعلية، وما زالت قادرة على لعب دور شديد الجذرية في تشكيل المشهد السياسي والإعلامي، بشكل لا يتوافر لغيرها.

وبالإضافة إلى قدرتها على تطويع، واستيعاب الإمكانات الرقمية لمنافسيها، فإن الصحافة تحتفظ بقدرة على العمل الاستقصائي طويل المدى والمتأني، بشكل لا يتوافر لمحطات الإذاعة والتلفزيون في لهاثها وراء السبق الآني والانتقال الى مكان الحدث، أو للسوشيال ميديا في خضم فوراتها المفاجئة وتقلباتها العصية على الضبط أو التوقع. 

وفيما فقدت الوسائط الرقيمة، قدراً فادحاً من مصداقيتها، بعد الكشف عن التلاعب الروسي بوسائل التواصل الاجتماعي، وقضايا "الأخبار المزيفة"، فإن الصحافة، ربما بفضل مؤسسيتها الأطول تاريخاً، واعتمادها الأقل على جانب النجومية الشخصية في عملها وتقاليدها الأكثر صرامة، ما زالت تحتفظ بقدر كبير من المصداقية، ليس أمام قرائها فحسب، بل أيضاً أمام مصادرها التي تفضلها على غيرها إن قررت تسريب قصص خبرية. 

في النهاية، تبدو الصحافة التقليدية، حتى اليوم، هي الأكثر رسوخاً، ربما للأسباب نفسها التي دفعت إلى توقع أفولها، أي فقر أدواتها التكنولوجية، وعدم قدرتها على اللحاق بمنافسيها في مجال السبق والآنية. وهو ما أتاح لها قدراً لا بأس به من فُرص التأني والتوثيق والتحليل والعمل الاستقصائي طويل المدى.