التعب حين يقتل

سحر الخطيب
الإثنين   2017/01/30
اكتفى أكثرهم بالإشارة إلأم بالبنغلادشية! وكأن الجنسية تلخص تفاصيل البشر!
مزَّقت ڤاركا صفحات قصة انطون تشيكوف الضئيلة وخرجت ومنها. مَن أخبر ذلك الكاتب الروسي اللعين بأنها تريد ان تكون كما كوّنتها مخيلته: فتاة في الثالثة عشر من العمر، خادمة لأسرة متوسطة الدخل عظيمة الجبروت، جعلت من استعباد البُنيّة قدراً، حتى اذا استحت الشمس لظلمها وغابت. أتى القمر جباراً كدوام إضافي للشقاء يُجبرها على غناء تهويدة للطفل المضجع في المهد حتى يغفو. والطفل لا يغفو، وڤاركا الصغيرة لا تغفو والتعب الذي التف كالثعبان حول جفونها لا يغفو! 

ڤاركا تشيكوف في رواية "نَعِسة"، لا تريد حتى ان تحلم. تريد ببساطة الكادحين ان تنام. والرواية القاتمة لم ترسم لإرهاقها وبكاء الطفل حدوداً، بل حبكتهما لإطالة التعب. فكان يكفي ان تغفو ڤاركا لجزء من ثانية ثائرة على هلاكها حتى يعود الطفل الى النواح. لا يذكر من قرأ روايتها سوى الختام. فقط أسطر القصة الاخيرة هي الأكثر وقعاً في ذاكرة المستعجلين! يذكرون ان ڤاركا قتلت الطفل لتنام! خنقته بيديها الذابلتين. 

ستخلع بطلة رواية تشيكوف الصغيرة عنها تخيّلية الكاتب، لتحلّ امرأة حقيقية بالغةً في كفرشيما لبنان. هناك ستكون أماً. وهناك ستقتل طفلاً جعلها القدر الخبيث مجدداً وصياً عليه. ولتكتمل القتامةُ التشيكوفية في هذي الرواية الواقعية، كان لا بد مجدداً أن تتناسل الحقيقة من الخيال فتقتل "ڤاركا كفرشيما" الطفل الباكي بداعي التعب! 

ستفرخ من الواقعة تلك المقالاتُ كالفطر. وستعبث التلفزيونات اللبنانية بخفّةٍ لا تحتمل بجسد مَن تبيّن انها طفلة وليس طفلاً، لتعرضَها على إغفاءتها الاخيرة من دون وجل. وللمناسبة، فقد ثبت انها أنثى بعد عبث العابثين بها، مجرِّدين إياها من ملابسها ليتبينوا انتماءها الجندري رغم ان هذا لم يجعلها تموت أقل أو أكثر! ظلت "ميمو"، وهو اسم الطفلة، على موتها الصارخ بوجه فضولهم. 

وتماماً كقصة تشيكوف، لم تُعرف تفاصيل كثير سبقت إغفاءتها الأخيرة! لماذا كانت تبكي باستمرار؟ هل كانت تبكي فعلاً؟ هل كانت قبل ذلك طفلة معنّفة؟ فحياة تنتهي بالقتل اختناقاً واصراراً عليه من قبل الأم حتماً لم تبدأ بدلال الورود! ثم لماذا لَمْ تقوَ الأم على خنقها وحيدة فاستدعت أصدقاءها لمساعدتها على تثبيت الحَمَل؟ 

ڤاركا تشيكوف فعلتها بمفردها! فهل ڤاركا كفرشيما خانتها القوة بفعل غرائزية يديّ أم! وهل فعلاً عرضت الأم بيع طفلتها ذات يوم، ربما تحسّباً لزمنٍ قد يقودها الى ما انتهت إليه؟ ثم ما القصة الحقيقية للأم التي ما عرف سوى قلّة ان اسمها "راغادا" فيما اكتفى أكثرهم بالإشارة إليها بالبنغلادشية! وكأن الجنسية تلخص تفاصيل العمر! 

لا بدايات للقصص التي تنتهي بالقتل في ارضنا ولا أسماء كاملةً لأصحابها. فقط نهايات! نهايات حزينة لأنصاف "أبطال" نعرف أنصاف أسمائهم وأنصاف قصصهم، ولا يهمنا الغرق في تفاصيلهم وحيواتهم واستشعار مأساتهم وتحسس تعبهم قبل ان يتحولوا الى القتل! 

نكتفي بأنهم مذنبون، كحكمٍ يريح الضمير الاجتماعي! ماذا عن تعبهم؟ ذلك القاتل الاول، رغم ان كل ذلك لا ولن يبرر فظاعتهم حين تحولوا الى القاتل الثاني؟؟ أو تحولوا في آن واحد الى القاتل المقتول كحالة نجاة التي اندس التعب في حياتها قبل السم ليفرغها من ذاتها حتى امتلأت بكل أسباب الرحيل؟! 

نجاة وديع لطيف، التي اختارت على طَرِيق صلاة قرب مقام السيدة العذراء في حريصا إسكاتَ نواح روحها فتجرعت سماً اعتادت على تعبٍ هو اقسى منه! كتبت: تعبتُ تعبتُ تعبت ثم شربت خلاصها سائلاً لتضمن نجاتها من الحياة! رددت العبارة مرات ثلاث كمن يترك وهو في أنفاسه الاخيرة دليلاً على قاتله. خيطاً يقود إليه. يقول البعض ان لتعب نجاة اسماً آخر قد يكون زوجها. 

ولا يُعرف كم أفادت جمعية "كفى" بالإشارة الى هذا الموضوع بعد رحيل الأم. حسبُ "كفى" انها اكتفت بالكلام. اما ماذا سيترك ذلك من ندوب في الاجساد المكلومة بذهاب الراحلين فتلك قصةٌ ليست من اختصاص "كفى"! كما لن يكون من اختصاص اي محكمة محاكمة التعب!