بوتين الافتراضي.. وتصدّع أميركا الترامبيّة

أحمد مغربي
الخميس   2017/01/12
شبح فلاديمير بوتين هو الفارق الفعلي بين أوباما وترامب، بسبب السوشال ميديا
إذا صحّ أن تلاعبات شبكة من المواقع في الـ"سوشال ميديا" يديرها فلاديمير بوتين أدّت إلى التلاعب بالجمهور الأميركي انتخابيّاً، أي معنى يبقى للديمقراطية، التي تتأسّس على بداهة "حكم الشعب بالشعب وللشعب"، مع التشديد على كونه شعباً مطّلعاً، بل حسن الاطلاع وفق صيغة مرجعيّة في "روح الشرائع- 1748" لـلفرنسي مونتسكيو.
وبسبب الميديا الرقميّة، يحدث إنّها المرّة الأولى تاريخيّاً التي ينسب فيها رئيس أميركي إلى دولة خارجيّة (ربما معادية؟)، مع ما يعنيه من مصادرة الإرادة الوطنيّة للشعب الأميركي، وهي عين ما يفترض بالديمقراطيّة أن تحميه، ما يعني انهياراً أساسيّاً في معنى النظام الديمقراطي للدولة الأميركيّة! إنه التاريخ يحدث تحت الأعين، لحظة بلحظة وكلمة بكلمة، فلنكن على أقصى تنبّه ممكن.

أول مرّة... أول مرّة...؟ ماذا تعني "أول مرّة"؟

هناك مفارقة كبرى يجدر تأمّلها خلف كلمات التداول الإعلامي عن المشهد الرئاسي في القوة العظمى الديمقراطيّة. هل يصلح المؤتمر الصحافي الأول للرئيس المنتخب دونالد ترامب شاهداً مرئياً- مسموعاً ورقميّاً على تصدّع الإمبراطوريّة الأميركية، ما يتناقض مع ألفاظ شعار "استعادة عظمة أميركا"؟

لتلمس التصدّع، يكفي الاصغاء إلى عدد المرّات التي يصف فيها الاعلام الأميركي نفسه، مجموعة أفعال المنتخب دونالد ترامب: "أول مرّة يظهر تناقض علني في فترة انتقاليّة"، "أول مرّة يوجه المنتخب نقداً مباشراً للرئيس في السلطة"، "أول مرّة تجري الإشارة إلى علاقة رئيس مع دولة خارجية"، "أول مرّة ينظر فيها الكونغرس في إلغاء انتخاب رئيس"، "أول مرّة يظهر صراع علني بين الأجهزة الاستخباراتية ورئيس منتخب".... وغيرها.

ماذ تعني كل تلك الـ"أول مرّات" في فترة انتقاليّة، خصوصاً أنها كانت مسبوقة بعدد من الـ"أول مرّات" في الحملة الانتخابيّة المريرة الشراسة، خصوصاً ما تعلّق بالرئيس الآتي للمرّة الأولى في التاريخ الحديث لأميركا (أيضاً وأيضاً) من خارج المؤسّسة السياسيّة!  

وهناك مفارقة ثانية هي أنّ الفارق ليس واسعاً بين الرئيس الأشقر- الأصهب الآتي، والرئيس الأسود المغادر، مع الاعتذار عن التفكّه "العنصري". إذ يربط بين الرئيسيّين "الملوّنين" خيط... الـ"سوشال ميدياً"!

في المقابل، هناك فارق تاريخي يتمثل في قدوم الشعبوي ترامب على صهوة اهتزاز العلاقات الراسخة بين مؤسّسات السلطة الأميركيّة بتأثير الـ"سوشال ميدياً"، وبين الرئيس الأسود الذي وصل بوصفه أول رئيس من صناعة الانترنت والإعلام الرقمي (خصوصاً "يوتيوب" آنذاك) الذي تضخّمت فيه الـ"سوشال ميديا" أثناء ولايتيه المتتالتين. والأرجح أنّ شبح فلاديمير بوتين هو الفارق الفعلي بين الآتي والمغادر، بسبب الـ"سوشال ميديا" أيضاً وأيضاً، مع إضافة مسألة الاختراق الالكتروني التي يصر ترامب على نفي ثبوت تهمتها على روسيا عبر الإشارة إلى عدم حصريتها في ذلك البلد. وإذ يؤكّد ذلك استحالة إثبات تهم الاختراق في العالم الافتراضي، فإنّه يثير سؤالاً خطيراً عن معنى الأمن الاستراتيجي للدولة العظمى كونيّاً. 

بلا مواربة: سقوط الإمبراطوريّة

بداية، لم يعد المشهد في رأس السلطة الأميركيّة قابلاً للوضع بين مزدوجي التداول والتنافس، بل لعله تعدّى الصراع وصولاً إلى التصدّع. (يستطيع هواة أفلام هوليوود العودة إلى فيلم "سقوط الإمبراطورية الرومانيّة" 1964- بطولة: صوفيا لورين وستيفن بويد)، أما محبّي الكتب فهناك ما لا يحصى منها عن العلاقة بين الصراع في رأس السلطة في الإمبراطوريّات وبين تهاويها. (من الإنجيل يمكن اقتباس: كل بيت ينقسم على نفسه يتصدّع").

وفي المؤتمر الصحافي الأول بعد تثبيت انتخابه، بدا ترامب متصادماً مع أجهزة الاستخبارات التي سرّبت أنها قدّمت لترامب وثائق بريطانيّة المصدر تصب لمصلحة منافسي ترامب، وكذلك تثبت اختراق موقع الحزب الجمهوري، إضافة إلى شكوكها بصدد تلاعب روسي بالرأي العام الأميركي عبر التلاعب بالأخبار والمواد المتداولة على الـ"سوشال ميديا"، بل مشاركة ترامب لبوتين في ذلك التلاعب الذي كان سلاحه العوالم الافتراضيّة. وردّ ترامب مشبّهاً الاستخبارات الأميركيّة (مع أوباما وكلينتون والحزب الديمقراطي) بـ...النازيّة، ومتهماً أياها باستهدافه كرئيس مقبل لأميركا! (هل شهدت الأعين ذلك في أميركا من قبل؟).

وعلى مضض، سلّم بحدوث اختراق روسي للشبكات الأميركيّة، لكنه "خفف" الأمر عبر الإشارة إلى أنّ الصين تفعل الأمر نفسه، وهي إشارة واضحة إلى توقيع أوباما اتفاقيّة مع الصين لإنهاء الاختراق الالكتروني المتبادل بينهما وتنسيق تحرّكاتهما الأمنيّة على الانترنت.

وفي ملمح شديد البروز، أوضح ترامب أنه يعتبر تداول الاعلام الأميركي لـ"الفبركات" (إشارة إلى تسريبات الاستخبارات الأميركيّة عنه، وما يشبهها من تقارير)، يعني أن الإعلام "آخذ في الانتهاء في هذا البلد (أميركا)". وحمل كلامه إشارة إلى صحيفة "واشنطن بوست" وكذلك شبكة "سي آن آن". وعقب المؤتمر، أفردت "سي آن آن" ساعات طوال عقب المؤتمر للردّ على ترامب، بل التهكّم عليه.

وكذلك ركّزت صحف أميركيّة على هبوط شعبيّة ترامب في استطلاعات الرأي بعد المؤتمر، بل رأت أنها المرّة الأولى (أيضاً وأيضاً وأيضاً) التي تتدنى فيها شعبية رئيس منتخب إلى هذا الحدّ قبل تسلّمه السلطة رسميّاً! وكذلك ذكرت الصحف بأن الفريق القانوني لترامب نال جائزة الدولة من روسيا السنة الفائتة كـ"أفضل شركة قانونيّة عالميّاً"، ما يؤكّد عمق علاقة ترامب مع روسيا.

 بعبارة اخرى، تصادم رئيس منتخب مع المؤسّسات الراسخة لحماية الديمقراطيّة (هو ما يفترض أن تنهض به الاستخبارات والجيش في أميركا)، الذي يفترض أيضاً أنه سيصبح رئيسها بعد أيام بفعل كونه قائداً أعلى للجيوش الأميركيّة، التي أضيف إليها في عهد أوباما "سلاح الجيش الإلكتروني"! وتصادم رأس السلطة مع الاعلام (= السلطة الرابعة) بما فيه المرئي- المسموع والورقي وجزء من الرقمي، قبل أن يضع قدماً في البيت الأبيض: المقر الرمزي للسلطة والنظام في أميركا. هل يبدو ذلك كله مألوفاً أم أنه... أول مرّة؟ ماذا يعني أن يكون كذلك.

روسيا: صراحة في القرب، مواربة في البعد؟

وفي المؤتمر الصحافي عينه، نفى ترامب وجود علاقة مباشرة تربطه بروسيا، وكذلك امتلاك المخابرات الروسيّة بيانات ذات طبيعة حسّاسة عنه أثناء حضوره مسابقة لانتخاب ملكة جمال العالم قبل بضع سنوات (ترامب والمال والجنس، من ينسى تلك الترسيمة؟)، أكّد ثقته بتعيين ريكس تيليرسون، مدير شركة "أكسون موبيل" للنفط، وزيراً مقبلاً للخارجيّة، مع العلم بأن تيليرسون وطيد الثقة بروسيا (خصوصاً شركة "روسنفت" شبه الحكوميّة)، وهو أمر لا يخففه وصف تيليرسون روسيا بـ"غير الصديقة".

وفي استطراد سياسي، استخدم ترامب وتيليرسون كلاهما تعابير ملتويّة في سياق الابتعاد عن روسيا. إذ حصر ترامب المسألة مع روسيا بـ"وجود خلافات"، ما يوحي بإمكان تغيير الموقف عند حل تلك الخلافات، في مقابل اللغة الصريحة عند الاقتراب من روسيا كوصفها بـ"أفضل صديق لمحاربة الإرهاب". هل تثير تلك الأمور كلها، أم أنّها توحي بأنّ نظام الإمبراطوريّة الأميركيّة بات يأنّ ويقرقع متصدّعاً تحت ضغط الشعبويّة المتسلحّة بالميديا الرقميّة؟ لننتظر ولنر!