كيدزموندو.. الطفل المستهلك كراشدٍ بائس

فرح شقير
الإثنين   2016/08/29
وقفنا ننتظر دورنا ليستقبلنا موظف طيران "ميديل إيست" في "كيدزموندو". اشترينا التذاكر وكان ثمنها باهظاً إلى حدّ ما. حاولت أن أستفهم أكثر عن المفهوم الأساس لهذه المدينة الافتراضية المخصصة للأطفال، لكن العامل لم ينجح في إفهامي. أدركت أنه كان عليّ أن أقرأ أكثر عن المكان، فكلّ ما كنت أعرفه أنه يسمح للأطفال بلعب دور ما، دور طبيب(ة) أو مهندس(ة) أو رسام(ة) أو مذيع(ة) أو ممثّل(ة) أو مغني(ة)، الخ. وكانت ياسمينة، ابنة اختي (4 أعوام)، تتذمّر من الانتظار، أولاً بسبب زحمة السير الخانقة، وثانياً بسبب وقوفنا لشراء التذاكر. 
ولا أنكر أن حماسي فاق حماسها، فقد انتظرت عامين لآخذها إلى مكان اعتقدت أنه يقدم ألعاباً مبتكرة وتربوية، رغم تحفظي على مفهوم الألعاب أو النشاطات التربوية. لكني كنت قد سمعت أن الزيارات ممتعة، وهذه هي الصفة الأهم في رأيي. 

المهم، دخلنا إلى باحة أشعرتنا أننا في مسرح لقرية أميركية صغيرة، ساحتها محاطة بمطاعم تقدم البطاطا المقلية والهمبرغر والهوت دوغ والفوشار والآيس كريم والبونبون، الخ.. كان علي أن أبحث عن "بنك عودة"، كما أخبرني عامل الاستقبال، لأصرف الشيك الذي أُعطي لي مقابل المبلغ الذي دفعته. دخلت البنك وأعطيت الموظف الشيك، لكنه أبدى اعتراضه وأصرّ على أن تقوم ياسمينة بإعطائه الشيك لأنّ هذا جزء من مسار التعلّم. لم أفهم، وكان المكان مزدحماً. "يا مدام هيي لازم تمسك الشيك وتحطو بالماكينة ليطلعلكن خمسين ألف ليرة أو على الأقل تعطيني اياه، وأصلاً لازم كانت تفوت لحالها على البنك". 

المهم، ورغم محاولاته ومحاولاتي، رفضت ياسمينة أن تعطيه الشيك، لا بل رفضت حتى أن تمسك الشيك المجيّر باسمها الكامل. أمام عنادها، تعب من المحاولة فصرف لنا الشيك، وأصرّ أن يمسكها المال الذي سرعان ما أعطتني اياه. 

شيء ما في داخلي أغضبني وأسعدني. لست أبداً ممّن يبالغون في الوعظ. لكن الاحتكاك الأول مع هذا المكان أشعرني برغبة في مغادرته. عدنا إلى الساحة الأساسية، ولم أكن قد عرفت بعد ماذا أفعل بالمال، لكن بدا لي أنه كان علينا أن نبدأ رحلة صرف الأموال!

فما هي التيمة؟ تساءلت مجدداً، ولا من يجيبني. مكان مفتوح يقدّم نشاطات تجارية وفنية. يدفع الطفل مبلغاً من المال للمشاركة في كل نشاط يختاره. وقد يربح، في بعض الألعاب، مالاً، يستطيع أن يدخره في حساب مصرفي في "بنك عودة فرع-كيدزموندو"، ليبدأ احتكاكه الأول مع مفهوم "مال - يقابله جهد - فربما مال أكثر (أو أقل) - فحساب مصرفي للمرة المقبلة - لدورة استهلاكية جديدة...". وهذا المسار واضح بصورة مفجعة في المكان. 

دخلتُ مع ياسمينة إلى مَرسَم تديره فتاة طيبة جداً، لكن النشاط يتألف من رسمة مخططة مسبقاً، تُوزّع هي نفسها على كل الأطفال المشاركين. وفي الوسط، عُلّقت النسخة الملونة منها لمساعدة الأطفال على اختيار الألوان، أو بالأحرى لإخبار الأطفال المشاركين بما عليهم الالتزام به من ألوان تقليدية، لسماء زرقاء، وشمس صفراء، وعشب أخضر. وبدأت ياسمينة  بالتلوين: سماؤها رمادية، وشمسها حمراء، وعشبها أزرق، وأسدها أحمر، ثم بنفسجي، ثم أصفر.. إلى أن انتهينا من رسمة صعبة الملامح وغادرنا على عجل. 

ثم؟ حقيقة الأمر، لم نصل إلى النشاط الثاني. رفضت ياسمينة أن تدخل الغرف-النشاطات. لكننا قمنا بجولة سريعة على هذه الغرف المغلقة واستفسرتُ عن تفاصيلها. 

سوبرماركت بمساحة صغيرة جداً. هنا سندفع عشرة آلاف ليرة، ليُعطى الطفل عربة صغيرة للتبضّع، فيضع فيها علب حمصّ ومعكرونة، يدفع ثمنها عند موظف الصندوق، ثم يعيدها عند الانتهاء. تجربة ممتعة؟ ربما. لكن ألا يستطيع الأهل أن يقدموا ما يضاهيها متعة عند ذهابهم مع أولادهم إلى سوبرماركت حقيقي؟ 

مركز عمال الإطفاء. بدا الأكثر ازدحاماً ومتعة. يقدم لباس رجال ونساء الإطفاء، ويقوم قائد الفريق بجولة في القرية، يشملها التسلّق لتنفيذ عملية ما. وقد بدا الأطفال الأقرب إلى سن العشر سنوات سعيدين بهذه التجربة. 

غرفة صغيرة تجد فيها جرّافة صغيرة، يحرّكها طفل لا يتجاوز سنّه الثماني سنوات، هي غرفة المهندس(ة) بكل تأكيد. تدفع مبلغاً من المال، لتصعد إلى الجرافة وتبدأ بجرف الرمل المكوّم داخل الغرفة. 

لم أعرف تفاصيل النشاط، لكنه بدا لي الأكثر بؤساً. هي جرافة جميل ابراهيم بكل تأكيد. تهدم عماراتنا الجميلة لتفسح المجال أمام برج آخر يكتم أنفاس المدينة ويعتّم على ساكنيها وزائريها. وبعيداً من هذه المشهدية التي استحوذت على خيالي، فالأكثر بؤساً أنه يجب على الزائر(ة) دفع مبلغ، أي مبلغ، مقابل اللعب بالرمل والبحص. هي أبسط الحقوق...! رمل وبحص وعشب ونمل وحشرات أخرى يوسخ بها الطفل ثيابه، يجمع كومة رمل بيده ويقذفها أو يحفر حفرة للنملات. 

جولة سريعة أكّدت لي أنني حتماً لم أظلم صاحب الفكرة أو المكان. جولة سريعة قمت بها، رغم تذمّر ياسمينة التي أرادت مغادرة المكان باتجاه الملعب، بلا تربوية ولا ادعاء. ملعب، على بساطته، يقدّم للطفل ما يبحث عنه: رمل وبحص وعشب ومراجيح، حيث لا يدفع المال كلّما تحرّك لتجربة لعبة ما. لا أعرف أي مفاهيم نريد إيصالها لأطفالنا، إن أخبرناهم بأن عليهم أن يدفعوا مبلغاً من المال لموظفة كي تخبرهم كيف يعمل مصنع "الكورن فلايكس". 

"كيدزموندو" يخبرهم بأن عليهم إنفاق المال لكي يعرفوا أي شيء في هذا المكان المغلق، حيث لا معلومات ولا إرشادات مجانية. لا تبادل مجانياً للمعرفة. إدفع.. لتحصل على "المعرفة". ثم إدفع لتتعلّم كيف "تنفق" معرفتك. إدفع لتعرف ولتتعلّم ولتجرّب، علّك تربح مالاً إضافياً تدخره في مصرف. 

"كيدزموندو"، لدخول عالَم الراشدين البائس، من بابه الواسع، وبسرعة الضوء... فقط بخمسين ألف ليرة.