عبد الحليم حافظ في كنيس يهودي

شادي لويس
الأحد   2016/07/24
التاريخ لم يعد سوى ماضٍ، أفسده اغتصاب الأرض، لا سرقات الألحان وانتحالها
قبل عامين، كنت قد بدأتُ الاهتمام بموسيقى اليهود العرب، وخصوصاً موسيقاهم الدينية. وباستثناء بضعة كتب عن الموضوع، كنت قد اطلعت عليها، كان موقع "يوتيوب" هو سبيلي للولوج الي هذا العالم المدهش، الذي تتقاطع حدوده على تخوم الثقافي والسياسي، ويتماهى داخله الدنيوي والمقدس، وتتصارع وتتمازج فيه هويات متناقضة وتواريخ عصية على الحسم.

كان الأمر بالنسبة إلي ولعاً شخصياً، ظننته غير جدير بجذب اي قدر من الاهتمام العام. 
وفي مطلع نيسان/ابريل2016، نشرت صحف مصرية، من بينها "المصري اليوم" و"التحرير"، مقطع فيديو تظهر فيه مجموعة من اليهود في كنيس، يغنون بالعبرية على ألحان أغنية عبدالحليم حافظ "على حسب وداد"، مذيلاً بتعليق للإعلامي المصري، يسري فودة: "قمة الحب قمة الكراهية، قمة الكراهية قمة الحب... لسه فيه حاجة ما سرقوهاش؟" 

وسرعان ما انتشر المقطع وتعليق فودة على العشرات من المواقع العربية من العراق إلى الجزائر، مشفوعاً بتعليقات القراء الغاضبة على التراث العربي المستباح، باستثناء القليل من التعليقات التي أبدى أصحابها اعجابهم بأصوات المنشدين وبهجتهم، مستنكرين تعليق فودة الذي وصفوه بضيق الأفق. 

تنتمي أغنية المقطع الى تقاليد أناشيد "البيزمونيم" لليهود السوريين، والتي تعود إلى بضعة قرون ماضية، وارتبطت بالتقاليد الموسيقية العربية، والحلبية تحديداً. يرجع الفضل في تدوين تراث البيزمونيم السوري الى المنشد اليهودي، رافايل تابوش، في نهاية القرن التاسع عشر، والذي كتب بنفسه عشرات التسبيحات المتداولة حتى اليوم. كان رافايل وجهاً معروفاً في المجتمع الحلبي، وضيفاً مرحباً به في أعراس أهلها باختلاف أديانهم، ومداوماً على مقاهيها وجلسات طربها، والتي استغلها لاستعارة ألحان أغانيها، لأناشيده العبرية، الأمر الذي جعله معروفا باسم، "رافايل الحرامي"، من باب التدليل والمشاكسة. 


تلعب المقامات العربية دوراً جوهرياً في طقوس العبادة لدى اليهود السوريين. فلكل سبت مقام محدد يستخدم في الترتيل، يعتمد على أحداث ذلك الأسبوع في التقويم اليهودي. وترتل التوراة على مقام السيكا، فيما يخصص مقام العجم لسِفر العدد، ويُرتَّل الإصحاح الأول من كتب موسى الخمسة على مقام "راست"، بوصفه المقام الأول في المقامات العربية. ويعتمد المقام المستخدم في الغناء في الاحتفالات الدينية والخاصة، على المناسبة، وطبقاً لمزاج المقام ولونه: فمقام الحجاز للجنازات، والعجم للأعراس، والصبا للختان.. وهكذا. 

كان ذلك النظام المقامي المعقد لطقوس العبادة، دافعاً للمنشدين اليهود السوريين، لاستعارة ألحان لأغان عربية متداولة ومعروفة لجمهور المتعبدين، حتى يمكنوهم من المشاركة في الترتيل اثناء الطقوس التعبدية بلا مشقة. وكان استخدام أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهما مدفوعاً أيضاً برغبة في إسباغ قداسة على تلك الألحان المحببة بالفعل لدى أفراد الطائفة، ونزع دنس دنيويتها عنها، وبذلك يستطيع أعضاء الكنيس الاستمتاع بالإنشاد والاستماع إلى ألحان عبد الوهاب، مثلاً، بصحبة كلمات مقدسة، من دون الخوف من ارتكاب معصية.


يزخر كتاب "دع الياسمين يتساقط، الأغنية والذكرى بين اليهود السوريين"، للباحثة الاميركية كاي كوفمان شيليماي، بسرد لعشرات اللقاءات مع أعضاء الجالية اليهودية السورية في الولايات المتحدة واميركا اللاتينية، والتي صمموا خلالها على تعريف أنفسهم بوصفهم "يهوداً سوريين" لا "يهود سوريا"، وسردوا علاقتهم الحميمة بتقاليدهم الموسيقية الدينية، والتي دائما ما وصفوها بالعربية، او الشامية، وفي أحيان أقل بالحلبية، وهي الصفات التي أسبغوها على ثقافتهم وهويتهم إجمالاً. 

ومع هذا، فإن معظمهم عبّر عن عدم ارتياحه لفكرة الذهاب إلى الملاهي الليلية العربية في مهجرهم للاستمتاع بتلك الموسيقى التي يحبونها، مبررين ذلك للكاتبة: "تعرفين كيف أصبحت الأمور بيننا، لن يكون الأمر مريحاً كما كان"، فيما أخبرها واحد منهم بأنه حضر حفلة لوردة الجزائرية في الولايات المتحدة، وبكى طوال الليل بعدها. 

لا يخبرنا مقطع الفيديو عن واقعة سرقة واستلاب كما يقول فودة، بل عن تاريخ طويل من التعايش والولع ايضاً، وعن تراث شديد الثراء والتنوع، لنا أن نعيد قراءته واستحضاره، ومنحه ما يستحقه من احتفاء. لكن ومع هذا، فإنه كذلك يخبرنا بأن ذلك التاريخ لم يعد سوى ماضٍ، أفسدته الصراعات اللاحقة والتي كان محورها اغتصاب الأرض، لا سرقات الألحان وانتحالها.