انتحار حسن رابح.. انتصار المهزوم

سامر مختار
الأحد   2016/06/26
بعد صفعة الشرطية التونسية فادية حمدي على وجه الشاب محمد البوعزيزي، وأمام خمسين شاهداً، بكى البوعزيزي. ذهب لمسؤول بلدية المدينة، "سيدي بوزيد"، ليشتكي على الشرطية، لكن أحداً لم يرد عليه. فعاد إلى السوق حيث كان يقف بصحبة عربة الخضروات التي صادرتها الشرطية، والعربة رأس ماله ومصدر رزقه، ليخبر أصدقاءه بأنه سوف يشعل النار في نفسه. لكن أحداً لم يكترث لكلامه أو يأخذه على محمل الجد. إلا أن البوعزيزي أضرم النار في جسده بالفعل، وكانت النتيجة إشتعال الثورة في تونس. 

إذاً حينما يعلن شخص ما أنه سينتحر نتيجة معاناة شخصية، لا يصدقه أحد، أو يقولون له: "جميعنا مررنا أو نمرّ بظروفك نفسها". وكأن زملاء البوعزيزي في ذلك الوقت كان لسان حالهم يقول: كلنا معرّض للصفعة ذاتها، لكننا لن نضرم النار في أجسادنا!

الراقص الفلسطيني السوري حسن رابح (25 عاماً)، والذي رمى نفسه من شقته في الطابق السابع في بيروت منذ أيام، لعله لم يُعلم أصدقاءه ومن حوله بأنه سينتحر، أو أنه أعلن عن ذلك، وأعتقد أصدقاؤه أن "الانتحار" بالنسبة له، فكرة قد توحي له برقصة جديدة يؤديها على خشبة المسرح، أي أنه انتحاره لن يتعدى خشبة المسرح. لكن رقصته الأخيرة فاجأت الجميع وتخطت مسرح حياته، وحياة جميع السوريين، التي هي أشبه بحفلة تعذيب داخل معتقل، لا يسمح لك جلّادك بالموت إلا بعد أن يصبح جسدك قطعة لحم مشوهة ومتعفنة.

لكن يبدو أن الجلادين تكاثروا ومازالوا يتكاثرون يوماً بعد يوم، هذا ما أدركه حسن رابح، كغيره من السوريين اللاجئين خارج سوريا وداخلها. لتبدأ رحلة الهروب من الاعتقال والموت تحت التعذيب، أو الهروب من البراميل والصواريخ التي تلقى فوق رؤوس الناس وبيوتها بشكل يومي، عدا أن أغلب الهاربين قد خسروا كل ما يملكونه. 

حسن لم يكن السوري الأول الذي يقدم على الإنتحار، هناك الكثيرون، قلّة سمعنا عنها أو عرفناها بالاسم، مثل الممثلة الشابة نجلاء الوزة التي انتحرت قبل عامين في جنوب افريقيا.

لكن هل يمكن تأطير فكرة "الإنتحار" عند السوريين في أنها حالة نفسية "شخصية" تخص أي فرد أقدم على الانتحار؟ 

الخيط الرفيع بين الانتحار والانتصار مثل الخيط الرفيع الذي يميز الكلمتين عن بعضهما البعض بحرف واحد، الحاء والصاد. فالحاء هنا، بشكل مغاير تماماً، كابوسي إن أردنا الوصف أو غاضب ورافض. الحاء؛ حياة كاملة، انفجارها من الداخل نتيجة الخارج، بكل ما يحمله من كابوسية وانحراف عن الجمال والإنسانية. والصاد تحوّل الكلمة برمتها لشكل آخر وشكل الحياة أيضا! ربما فضّل حسن رابح الرقص على حرف الحاء وهو المشبع به اسماً وحياة، وقرر أن تكون حياته انتحاراً لا هزيمةً. هي حالة حادة بالطبع لكنها تنطلق إلى أفق مفتوح لا ينحصر في خشبة مسرح محددة الزوايا وخافتة الإضاءة ومشبعة بالوقائع.

الكابوسية تمتد لما بعد مشهد انتحار حسن رابح، وكثير من السوريين، في التحول من الخلاص من نظام دموي بكل ما يحمله من ممارسات ضد الإنسانية، إلى الخلاص بمعنى أشمل، بمعنى يشمل الحياة ذاتها، وهو تطور نفسي منطقي لا يصادق عليه سوى السوريين ومن مروا في طريقهم ولو مرور الكرام. منطقي أن تسمع شكاوي السوريين حتى في بلدان تبدو آمنة، من أزماتهم النفسية وكوابيسهم وأرواحهم التي تبدو مقتلعة ومعلقة في الهواء في مسرحية يظهر السوري فيها معلقاً على مشنقة بصورة غير مفتعلة، لكنها درامية بالشكل الكافي الذي يصدم الجمهور ويصفق لها في الوقت ذاته.

"إذاً فالسوريون يصدّرون طاقاتهم السلبية للآخرين ويقفون ضد الحياة في مشاهد كابوسية كلها انتحار أو غرق، وينظّرون للانتحار ويقبلون بالهزيمة النفسية"، هذا الحديث يبدو مضحكا لا ريب، عندما تسمعه جهراً أو سراً ممن يعلّقون على حوادث انتحار السوريين. "طاقاتهم السلبية".. يقف المصطلح هزيلاً أمام حجر أسود ضخم يستوي على مضخة القلب ليستنزف طاقة الحياة من قلب كل حسن رابح.

غريب أيضاً أمر مَن يرفضون ربط الانتحار بالواقع السياسي، وكأن ثورة لم تقم في تونس وتبعتها ثورات في العالم العربي بعد مشهد انتحار البوعزيزي، كأن البوعزيزي انتحر بسبب نوبة سكر زائدة ولم ينتحر لسبب سياسي اقتصادي.

لا يمكن أن نعتبر حالة انتحار حسن رابح، استسلاماً لليأس أو الموت. بل لعلها آخر الوسائل التي يستخدمها الإنسان احتجاجاً على حالة اللاموت واللاحياة.