الصحافة تخسر أزمتها

روجيه عوطة
الخميس   2016/03/24
ترغب الصحافة في سحق أزمتها من خلال استئناف ما قبلها، أي ما أدى إليها (غيتي)

عندما يدور الكلام  حول "أزمة الصحافة" الورقية في لبنان، تبدو كأنها طارئة على قطاعها، أو أنها بمثابة نازلة تحل به، بحيث يعمد القيمون على الجرائد إلى التعامل معها عبر سلوكيات بعينها، أي الندب، أو العودة إلى الماضي بوصفه جوهر المجد والحظوة، أو المُعاندة. ولا تتشابك هذه الأفعال ولا تتداخل سوى لكونها تنطلق من غاية واحدة، وهي كتم الأزمة أو تأخير ظهورها.

على هذا الأساس، كتبت رئيسة تحرير "النهار" نايلة تويني افتتاحيتها، وبدأتها بعبارة "ليس عيباً أن يقر الإعلام بأزمته، وخصوصا الصحافة المكتوبة التي بلغت أزمتها مرحلة غير مسبوقة". كما أن رئيس تحرير "السفير" طلال سلمان لم يجد مناصاً من ابتداء إفتتاحيته بثلاث نقاط، تفيد التردد، ثم يتبعها بـ"وكان لا بد أن تخرج إلى العلن الأزمة الخانقة التي تعيشها الصحافة في لبنان". ذلك، قبل أن يذهب الإثنان إلى إلقاء العواقب على عواتق "الوضع العام" و"النظام السياسي"، كما لو أن أزمة الصحافة هي أزمة غيرها، لكنها، ومصادفةً، وقعت فيها. فعلى الرغم من موقع هذه الصحافة في "الوضع" و"النظام"، لكنها، وفي حين ضيقتها وشدتها، تسرع إلى انكار صلتها بهما والركون إليهما على حد سواء.

عقدت الصحافة نيتها على تنزيه ذاتها من أزمتها، وهذا ما يجعلها مطمئنة إلى إنعدام قدرتها على التفكير في موقفها، أو على ابتكار تخطيه. إذ بلغت دربها المقفل، وها هي لا تجد ما تقوله في السبل التي أوصلتها إلى حالها، معتقدةً بأنها بلغتها فجأة وعنوة، وليس في إثر دخولها في مسار بذاته، والتصرف على نحوه. لقد رددت الصحافة لغوها حين تحدثت عن أزمتها، فماذا كانت تفعل قبلها سوى إنتاج اللغو نفسه، والتمسك بسردياته، وفي مقدمتها، سردية مكانتها بالإرتكاز على طاعة محيطها الناطق باللغة العربية، وسردية مواظبتها على إحداث الصحو واليقظة الدائمين.

ترغب الصحافة في سحق أزمتها من خلال استئناف ما قبلها، أي ما أدى إليها. وبذلك، تدور حول نفسها، متكلة ً على الدولة، التي ترمي عليها مسؤولية مأزقها، وفي الوقت عينه، تطلب نجدتها. بالتالي، تخسر الصحافة أزمتها، آخر فرصة لها،  آخر عطلة من "تاريخها"، لكي تدنو من واقعها، وتتجنب صناعته من جديد.

على أن أزمة الصحافة هي إجازة للبحث في صحافة أخرى: لا تنظر الى عملها كـ"سلطة رابعة" تعمل على التكلم والفضح، بل كقدرة على القول والمشاهدة والجدال. لا تؤدي خطاباً، أكان سياسياً أو مجتمعياً أو غيرهما، لما تنقل واقعة، ولا تعلق على واقعة كأنها خبر. لا تحاكي الرأي العام، متطابقةً معه، فتبقيه على حاله، معتقدةً بأنها تصنعه. لا تتفاعل مع القراء بوصفهم قارئاً واحداً، مرةً، تظن أنه جاهل، وحيناً، تحسبه مفقوداً، وغالباً ما تحاول أن تكونه ليستهلكها وتستهلكه. خطها التحريري ليس رأسياً ومستقيماً، يلتف كدائرة على أي خط يغايره، بل أنه متشعب ونشيط.

لا تهجس في التواصل، وتمحور إعلامها حوله لدرجة اللحاق بالقراء المفترضين أينما ذهبوا، والاستسلام لرغبة جذبهم، ولو حققت ذلك عبر انتحارها أمامهم. ليست بطيئة، لكنها، وبالفعل ذاته، ليست آنية أو لحظية. لا تغرق متابعها بالأخبار معتبرةً أنها تشركه في الواقعات مباشرةً، لأنها بهذا الأمر تقترب بأدائها من اداء التلفزيون، محولة ً القراء الى متفرجين، ولا وقت لديهم بين خبر وآخر كي يفهموا ماذا يجري حولهم.

لا سقف لحريتها، لكنها، تصنع الحريات والحقوق أيضاً، تخلق مشكلات، تطرح أسئلة، لا تتجمد في الهوامش، ولا تتمركز في المتون، تصدر من أجل الحاضرين بين الإثنين والعابرين بينهما، وخصوصاً من أجل الذين لا يقرأوا ولا يكتبوا.